مقدمة
تقدم المحللة السياساتية في الشبكة نورا عريقات طرحًا جديدًا في كتابها الجديد المعنون “Justice for Some: Law and the Question of Palestine” [عدالة للبعض: القانون والقضية الفلسطينية] ضمن مقاربتها للقانون الدولي في الشأن الفلسطيني. يعتقد المحللون عمومًا بأن القانون في هذا السياق إمّا مفيد إذا نُفِّذَ كما ينبغي، وإما مُضرٌّ بسبب علاقته بالسلطة والنفوذ. غير أن عريقات تطرح حُجةً مختلفةً، إذ ترى أن القانونَ سياسةٌ، ومثلما يمكن استخدامه كأداة هيمنة في يد الدول القوية، يمكن استخدامه على نحو استراتيجي للنهوض بالقضايا التقدمية، بما فيها قضية التحرر الفلسطيني.
تقول عريقات إن “كتابات كثيرة عن القانون وفلسطين تروِّج لفكرة أنه لو سُمحَ بتفعيل القانون، فإننا سوف نلمس عدلًا أكثر في المحصلة.” “ولكن القانون يعمل كما ينبغي له أن يعمل، لذا علينا أن نكون أكثر انتقادًا للقانون.” وهي ترى أن لا معنى محددًا للقانون، وأنه يعتمد على الإجراءات المتبعة والتفسيرات. وتقول “إن المسألة لا تقتصر على التحليل القانوني وحسب، بل إن القانون يعكس توازن القوى، والاستراتيجية، والأحداث التاريخية.”
غير أن السلطة والقوة لها حدودها. وبالرغم من أن هناك كتابات أخرى حول القانون وفلسطين تقول إن القانون مرتهن بالسلطة والقوة، فإن عريقات ترى بأن النتيجة المنطقية لهذا الطرح – القائل إن السلطة تحدد القانون – تستلزم بأن القانون وهم. تقول عريقات: “لو كان القانون تبريرًا بحتًا للسلطة، لَكُنا تخلينا عنه منذ زمن بعيد… ولكانَ ذلك مدعاةً للاحتجاج. ولكننا عهدنا بأن القانون أداةٌ للاضطهاد والقمع، وأداةٌ للمقاومة أيضًا.”
تحاورت الشبكة مع نورا عريقات حول مقاربتها إزاء القانون الدولي وما تعنيه بالنسبة إلى فلسطين والفلسطينيين، وماهية المستقبل الممكن تخيله إذا طبقنا هذه المقاربة.
متى أحسنَ الفلسطينيون استخدامَ القانون الدولي؟
أحسنَ الفلسطينيون استخدامَ القانون الدولي في عقد السبعينات. رسَّخ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدةرقم 242 لسنة 1967 مكانةَ إسرائيل كواقعٍ سياسي في الشرق الأوسط حين نصَّ على أن إسرائيل سوف تُعيد الأراضي العربية لأصحابها الشرعيين مقابل تطبيعهم العلاقات مع إسرائيل. وهكذا ترسخت الشرعية الاستيطانية الإسرائيلية وحظيت بالحماية بموجب القانون الدولي بينما تأكدَ محو الفلسطينيين كشعب. فالقرار لم ينص على أن الفلسطينيين شعبٌ أو أنهم سيحصلون على دولة. بل أشار إليهم فقط بمسمى “مشكلة اللاجئين.”
وفي 1974، ساهمت منظمة التحرير الفلسطينية في صياغة قرار مجلس الأمن رقم 3236، والذي كان تصويبًا لقرار 242، حيث أقرَّ بالفلسطينيين كشعب، ونصَّ على أن لهم الحق في تقرير المصير وفي تسوية سلمية دون أن تكون هذه التسوية متوقفة على الاعتراف بإسرائيل. وفي هذه الحالة لا يملك الفلسطينيون دولة، وهم يعكفون على استخدام القانون من أجل بلوغ النتائج المنشودة. والقانون في هذه الحالة أداةُ مقاومة. بالطبع، هذا أقصى ما يمكن تحقيقه بواسطة القانون. ولكن حتى وإنْ كان القانون قاصرًا عن تحقيق نتيجة ثورية، فإنه يظل وسيلةً في يد الشعب من أجل المقاومة والدفاع عن نفسه.
هل هناك قضايا أخرى غير القضية الفلسطينية تُبرز فوائد استخدام القانون الدولي؟
يمكننا أن نتعلم من قضايا قانونية أخرى وقضايا تنطوي على الاستعمار الاستيطاني. فهذه القضايا تُظهر النوع نفسه من المحو القانوني، حيث يقوم المستوطنون بفرض سيادتهم على المجتمعات الأصلية بينما تكافح تلك المجتمعات من أجل تقرير مصيرها. ومن الأمثلة على قضايا الاستعمار النضالُ الناميبي ضد الهيمنة الجنوب أفريقية، حيث يضرب مثالًا لاستخدام القانون الدولي في الدفاع عن القضايا التقدمية.
اتسمت قيادة حركة التحرير الناميبية بالحنكة والدهاء في استخدامها القانون الدولي للتحرر من جنوب أفريقيا. عُرفت تلك الحركة باسم منظمة شعب جنوب غرب أفريقيا (سوابو)، ولم تسمح لنفسها قط بأن تخضع لنفوذ جنوب أفريقيا. وبخلاف القيادة الفلسطينية التي أذعنت لإسرائيل وراعيها الأمريكي، اعتمدت منظمةُ سوابو على عملية تفاوضية دولية ولم تقبل أن يكون قامعها ومضطهدها مُحرِّكًا وموجِّها لتلك المفاوضات.
لم تُلق منظمة سوابو السلاح قط. وهذا لا يعني أن الكفاح المسلح هو الطريقة الوحيدة الممكنة للمضي قدمًا على صعيد التحرير الفلسطيني، ولكنها إشارة إلى أن إلقاء السلاح تُعد فعليًا تخليًا عن مصدرٍ من مصادر القوة التي يمكن أن تُعزز الموقف التفاوضي. (لا بد من الإشارة إلى أن منظمة سوابو حظيت بدعم القوات الكوبية في أنغولا. وهذا اضطر إدارة ريغان في نهاية المطاف إلى وضع سياسة تربط بين انسحاب جنوب أفريقيا من ناميبيا وبين انسحاب كوبا من أنغولا).
وفي حالة ناميبيا، جرى تطبيق القانون تدريجيًا وأفضى إلى طرح حُجة قانونية أكبر تعادل الاستقلال. وهكذا تمكنت ناميبيا من تسخير القانون لمصلحتها بفضل ذلك وبفضل أن القيادة رفضت التخلي عن عملية السلام المتعددة الأطراف لأجل الدخول في عملية سلام ثنائية مع جنوب أفريقيا ورفضت التخلي عن كفاحها المسلح.
ماذا ينبغي للقيادة الفلسطينية أن تتعلم من حالة ناميبيا؟
لم تستخدم القيادة الفلسطينية القانون على نحو استراتيجي كما فعل القادة الناميبيون. فالاستراتيجية تتكون من أساليب متعددة تُفضي إلى محصلة في النهاية، غير أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لم تتبع سوى أساليب قانونية دولية مؤقتة وغير منتظمة. فقد رأينا القيادة وهي تلجأ إلى الأمم المتحدة لمقاضاة إسرائيل بموجب نظام روما الأساسي في المحكمة الجنائية الدولية، ورأيناها تدافع عن مكانتها القانونية كدولة، وفي الوقت نفسه رأيناها تتخلى عن تلك المساعي القانونية حالما عرضت عليها الأمم المتحدة ظروفًا أفضل للتفاوض على “خطة سلام”.
إن القيادة الفلسطينية بحاجة إلى استراتيجية حقيقية تتحدى البناء السياسي الذي يُخضِع الفلسطينيين ويُذلهم. فقد وقعنا في فخ السيادة المتمثل في التمتع بسيادة مستأجَرة تقوم على انهماك الفلسطينيين الدائم في إثبات استحقاقهم للحكم الذاتي. وقد انبثق هذا الفخ من اتفاقات أوسلو ، فأيٌّ من بنودها لا يَعِد بإقامة دولة أو نيل الاستقلال في نهاية المطاف. إنما هي اتفاق يؤسس لحكم ذاتي متشرذم ومحدود ومتوقف دومًا على الموافقة الإسرائيلية. لقد نجَحَ الإسرائيليون في 1993 في شرعنة استعمارهم برضى الفلسطينيين. وحتى منظمة التحرير الفلسطينية وصفت إيمانها بأن اتفاقات أوسلو ستقود إلى الاستقلال على أنه مبني على “حسن النية.” فيجب علينا أن نرفض أوسلو وأن نرفض الولايات المتحدة كوسيط. وليس هناك خيارٌ آخر سواءً كنا نَنشد حل الدولتين أو حلًا آخر.
هل تقدم الحركة الشعبية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها هذه الاستراتيجية؟
حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات هي إطار عمل يتحدى المحظورات ويحث على النقاش ويضع إسرائيل في موقف دفاعي، وهذه كلها تطورات إيجابية. ولكن حركة المقاطعة ليست حركةً سياسية، ولا تقدم رؤية سياسية للمستقبل. ويرى قادتها بأن منظمة التحرير فقط التي بوسعها أن تتخذ تلك القرارات. وهكذا في حين أن حركة المقاطعة أوجدت حيزًا سياسيًا، فإن أيًا من الفاعلين السياسيين الفلسطينيين لم يستثمر ذاك الحيز للاستفادة من إنجازات حركة المقاطعة في فرض مطالب سياسية. ومن الجيد أيضًا أن حركة المقاطعة تُجسِّد تحليلًا قائمًا على الحقوق، وأُؤكد مجددًا هنا على عدم وجود أي رؤية سياسية من شأنها أن تُبين ماهية حقوق الإنسان التي يمكن تحقيقها في إسرائيل وفلسطين. فعلى سبيل المثال، يؤمن المستوطنون بأن بقاءهم في منازلهم هو حق من حقوقهم الإنسانية. فضلًا على أن هذا يثير مسائل حول ما إذا كان المَطلب المطروح يتمثل في تفكيك تلك المستوطنات أم في دمجها. وهذا غيض من فيض الاحتمالات الممكنة عند التفكير في محدودية إطار العمل المبني على الحقوق. فهو ضروري ولكنه غير كافٍ، ولذلك نحتاج إلى وسيلة سياسية ملموسة أكثر.
تتمثل مهمة الشبكة في تثقيف العامة وتعزيز النقاش العام حول حقوق الإنسان الفلسطيني وتقرير المصير ضمن إطار القانون الدولي. فما الذي ينبغي أن يتذكره محللونا السياساتيون في ضوء بحثك؟
إن ما ينبغي لمحللي الشبكة – والفلسطينيين كافة – أن يفعلوه هو ألا يركزوا على إعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية أو العودة إلى 1947. نحن بحاجة إلى رؤية للمستقبل، وعلينا أن نضفي صبغةً سياسيةً أكثر على مطالبنا وأن نشجع الناس على طرح رؤى سياسية جديدة. وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى اتفاق الجميع على إطار وطني للتحرير. وحركة المقاطعة ليست إطارًا للتحرر وإنما إطار للتضامن. فما هو إذن إطارنا الوطني للتحرر؟
الحق يُقال إن السلطة الفلسطينية واضحة جدًا في رؤيتها، حيث لا تزال تريد حل الدولتين. أمّا مَن يرفض حلَّ الدولتين، فإن تفضيلَه حلَّ الدولة الواحدة لا يكفي. فماذا بشأن عملية إنهاء الاستعمار؟ وما هو مصير الإسرائيليين في المستقبل؟ فحين صادق الفلسطينيون على فكرة دولة مقطَّعة الأوصال في 1988، كانت تلك انعطافة ثورية لحركة التحرير الوطنية. ولم يتصور المتحمسون الأوائل لها، كمحمود دوريش وإدوار سعيد وغيرهم كثيرون، أنها سوف تنحرف إلى هذا الحد بموجب اتفاقات أوسلو. ويمكن لهذه المخاطر أن تشوب حل الدولة الواحدة أيضًا، فيمكن لحل الدولة الواحدة أن ينحرف ليجسد سيادةَ المستوطنين اليهود الصهاينة وإذلالَ الفلسطينيين. ولأن حل الدولتين أبسط بكثير، فإن تحقيقه يبدو أسهل في مخيلتنا، بَيد أن كلا الحلَّين على القدر نفسه من الجسامة، ولا يكمن تحقيقهما دون إنهاء الاستعمار.
أنتِ تختمين الكتاب بطرح رؤى ممكنة للمستقبل. ما الذي تنطوي عليه هذه الرؤى؟
لنتخيل أن اللاجئين الفلسطينيين قد عادوا. ودعونا نستخدم ذلك كوسيلة لتصور المستقبل. فبدلًا من المطالبة بحق العودة باعتباره المحصلة المثلى، يجب علينا أن نسأل كيف للعودة أن تتيح الإمكانيات والفرص. كيف يمكن للعودة أن تكون مكوِّنًا أساسيًا في الحل وليس نتيجة نهائية؟
هذا يقودني للتفكير: كيف يمكن لهذا أن يعمل على تحويل إسرائيل إلى دولةٍ جزءٍ من الشرق الأوسط، وليس دولةً تابعةً للمستوطنيين تقع في الشرق الأوسط؟ قد يبدو هذا وكأنه ضربٌ من الكفر، ولكنني أنهمك في هذا التفكير لأتخيل كيف يمكن لفلسطين أن تحتضن الجميع. تذكروا أن جزءًا رئيسيًا من المجتمع اليهودي الإسرائيل هم أيضًا عرب. ينحدرون من أماكن مثل العراق وسوريا والمغرب والجزائر، وهم مضطهدون للغاية داخل إسرائيل لأن إسرائيل كانت ولا تزال مشروعًا مبنيًا على تفوق العنصر الأبيض. وقد اضطر اليهود العرب إلى إنكار هويتهم العربية لإنجاح مشروع تفوق العنصر الأبيض. وعلينا نحن الفلسطينيين أن نكون قادرين على تأمين مستقبل للإسرائيليين اليهود أفضل من المستقبل الذي تعرضه عليهم إسرائيل الآن. وهذا أمرٌ مخيف، إذ إن من الأسهل أن تُبرزَ عِلل إسرائيل وعلاقتها بالولايات المتحدة. ولكن ما هو المستقبل الأمثل الذي يمكن أن نتصوره؟
لا ينطوي هذا المستقبل على التطبيع مع إسرائيل. فهي مستعمرةٌ استيطانية مبنية على القضاء على الفلسطينيين، ولا ينبغي تطبيع ذلك. غير أن المؤسسة الاستعمارية الناظمة للعلاقة بين السكان الأصليين والمستوطنين يمكن، وينبغي، أن يتم تحويلها ضمن جهود إنهاء الاستعمار. وهذا ينطوي أيضًا على الاعتراف بالتنوع الإثني والديني واللغوي الهائل في العالم العربي. فلطالما كنا متنوعين – مسيحيين ويهود ومسلمين – ولكن كما يقول أسامة مقدسي إن التدخلات السياسية التي تقوم بها الدول، وليس أقلها الصهيونية، هي المحرك الأكبر للنزعات الطائفية والمذهبية في الشرق الأوسط. نحن لسنا في صراع بين المجتمعات لأننا مختلفين ولكن لأن القوى والدول الاستعمارية أكسبت تلك الاختلافات أهميةً سياسية. فكيف نتغلب على تلك الانقسامات؟ وكيف نبدأ في تصور مستقبل لا ينتمي له الفلسطينيون وحسب، وإنما ينتمي له اليهود العرب أيضًا؟ وهذه دعوة لتخيل المستقبل بدلًا من الحنين إلى الماضي.
يجب علينا أن نتخلى عن إطار السيادة وأن نتبنى إطار الانتماء. فبوسعنا جميعًا أن ننتمي، ولكن عدد مَن يستطيع منا السيطرةَ والحكم محدودٌ. وهذا ضربٌ غير معهود من الحُلم والتخيل. حتى وإنْ لم أخرج بالمعادلة الصائبة، دعوني على الأقل أن أخرجَ بشيء يُلهمكم ويدفعكم إلى ممارسة التخيل غير المعهود أيضًا.