المشروع الصهيونيّ: في الماضي وفي المستقبل، وحل الدولة الواحدة

بقلم : إيلان بابي


هذه المقالة مستفادة –في الأصل- من نص مداخلة ألقاها الكاتب في يوم دراسي لحملة الدولة الواحدة.

إيلان بابي مؤرخ، وناشط في “حملة الدولة الواحدة”، يشغل منصب مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة “إكستر” في المملكة المتحدة – بريطانيا

إن المشروع الصهيوني هو مشروع استعماري استيطاني، أقيم على أنقاض شعب آخر هو الشعب الفلسطيني صاحب الوطن.

هذا المشروع ليس المشروع الاستعماري الاستيطاني الوحيد الذي حصل في الماضي؛ فقد حصلت مشاريع من هذا النوع في أمريكا، وأستراليا، وجنوب أفريقيا وفي بلاد أخرى.

بخصوص الموجة الأولى من الغزو الاستعماري، هرب لاجئون من أوروبا -والذين تعرضوا للاضطهاد الديني أو الاقتصادي – هربوا إلى أماكن خارج القارة خوفا على حياتهم، واستوطنوا في أماكن جديدة وفتشوا عن وطن بدلاً من الوطن الذي عانوا فيه من القهر والجوع.

بدأت هذه الحركات الاستعمارية في القرن ال-،16 وكانت الحركة الصهيونية هي الحركة الأخيرة.

وقد كانت العقبة الرئيسة التي واجهت المستوطنين -في هذه الحركات الاستعمارية- أنه كان يعيش في تلك البلاد شعب آخر، أو شعوبٌ أصلانية، في هذه الأماكن الجديدة.

التقى المستوطنون في هذه البلاد الجديدة مع الشعوب الأصلية، حول منطق واحد ميز جميع الحركات الاستعمارية الاستيطانية، وهو منطق الإبادة، إبادة السكان الأصليين، على حد وصف الباحث المعروف الراحل: (PATRICK WOLFE)الذي قال أيضاً: إن الاستعمار الاستيطاني ليس حدثا بل بنية؛ أي نظام مستمر من النهب والسيطرة والاستغلال والقمع.

في أمريكا كان معنى الإبادة: إبادة جماعية جسدية. وفي جنوب أفريقيا كان فصلا عنصريا قهريا ( أبارتهايد). وفي فلسطين ترجم إلى تطهير عرقي؛ أي طرد وتهجير من الوطن.

في أحيان كثيرة كان الاستيلاء على الوطن الجديد من خلال تزييف التاريخ -تاريخ البلد وأهله- وكانت القصة التي حكاها المستوطنون، من مختلف الحركات، لأنفسهم وللعالم كله، نفس الحكاية تقريبا. وكانت القصة: إن الأصليين غرباء في أرضهم، والمستوطنون (المستعمرون) هم الأصليون. وهذا على أساس وعد من الله أو تجسيد لموقفهم بتفوق الثقافة والحضارة الغربية على الحضارات غير الغربية. وفي دراسة الحالة الصهيونية، فإن الحكاية تشمل خرافة عودة اليهود إلى فلسطين، كأصليين وكأصحاب الوطن، بعد ألفي سنة من ” المنفى”

الخرافة معروفة: الوطن كان خاليا، والعرب الذين عاشوا فيه منذ قرون، كانوا بدوا، لا جذور لهم في هذه الأرض.

ليس المهم زيف هذه الخرافة، بل الاعتراف العالمي بها كحقيقة تاريخية -لأسباب مختلفة، من بينها معادة السامية- والمفارقة أن المعادين للسامية في أوروبا رحبوا وشجعوا نقل اليهود من أوروبا وأمريكا إلى فلسطين، وكان -ولا يزال- مِن هؤلاء مَن يؤمن بأن تجمع اليهود في فلسطين سيعجل في عودة المسيح الى الأرض، من خلال حرب أرمجدون، يهزم فيها اليهود، ومن يتبقى منهم يتم تحويله إلى المسيحية.

واليوم، في الولايات المتحدة الأمريكية -وغيرها- يؤمن المسيحيون الصهاينةEvangelicals) ) بالصلة بين عودة اليهود وعودة المسيح ونجاح المسيحية في نهاية الأيام. هؤلاء المسيحيون الصهاينة هم قوة مهمة في أمريكا، وهم اليوم قاعدة التأييد للرئيس دونالد ترامب، ولسياساته في فلسطين. وآخرون أيدوا هذه الأكذوبة بسبب خوفهم من قيام سلطة إسلامية أو عربية في فلسطين.

منذ بداية المشروع الصهيوني، عمل قادة الحركة الصهيونية على استطلاع الوضع في فلسطين كلها، وككل حركات الاستعمار الاستيطاني، اعتبر قادة الحركة الصهيونية الفلسطينيين -أصحابَ الأرضِ الأصليين- العقبة الرئيسة أمام تحقيق مشروع الوطن اليهودي في فلسطين، ولذلك خططت الحركة الصهيونية عملية التطهير العرقي في 1948 ونجحت في طرد نصف أصحاب هذا الوطن، وتدمير مئات القرى الفلسطينية وعشر مدن فلسطينية، وأقامت على انقاضها مستوطنات يهودية مفتوحة لليهود فقط، أو زرعت بدلها أشجار الكيرن كييمت. إلا أن الحركة الصهيونية لم تستطع استكمال مشروع التطهير والطرد.

هذا الإخفاق يُحرك سياسة إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده.

ومنذ النكبة، بقي نصف الشعب على أرضه، وفي مخيمات اللاجئين ولدت الحركة الوطنية، وانطلق مشروع تحرير فلسطين.

إن منطق ابادة الأصليين يسِم سياسة إسرائيل منذ 1948، ويتمثل ذلك في فرض الحكم العسكري على من نجا من التطهير العرقي وبقي في حدود دولة إسرائيل، لعام 1948، وفي احتلال الضفة وقطاع غزة في 1967، والعدوان الإسرائيلي على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في 1982، وتهويد الجليل والنقب، ونظام الاستعمار والفصل العنصري في القدس والضفة، والحصار الوحشي على قطاع غزة، كلها وسائل وآليات لتحقيق منطق الإبادة.

واليوم بتنا ندرك، أن كل مبادرات السلام التي خرجت من إسرائيل ودعمت في واشنطن وأوروبا -والتي تأسست على مبدأ تقسيم الوطن وحل الدولتين- كانت جزءًا من تكتيكيات الإبادة، وما كان لها أي علاقة بعملية السلام العادل والشامل.

ولهذا السبب لا يوجد نقاش حقيقي داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل؛ إن الحوار فيه هو تكتيكي يتمحور حول كيفية تحقيق منطق الإبادة أو استكمال المشروع الصهيوني الإحلالي.

على كل حال، لقد مات هذا النقاش منذ زمن. والآن نواجه معركة جديدة وخطيرة لتحقيق هذا المنطق.

لا يغيب عنا حقيقة دعم حل الدولتين من الطرف الفلسطيني، والذي كان في الأصل حلا مرحليا، -وليس “دولتان لشعبين”- صدر كقرار عن المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، تحت ضغط دولي وعربي رسمي، بحجة اختلال ميزان القوى.

برأيي، هذا النقاش حول حل الدولتين ليس مهما اليوم؛ فإن واقع الاستيطان في الاراضي المحتلة عام 67 لم يُبق أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافيا، ومستقلة، وكاملة السيادة. نعترف أن السلطة وفصائل منظمة التحرير، والأحزاب العربية داخل الخط الأخضر تتبنى حل الدولتين، ولكن الجيل الفلسطيني الجديد يتبنى منذ سنوات طويلة خطاب الدولة الواحدة بصفته حلا وحيدا لقضية فلسطين، ونؤمن أن التحول الشعبي، والرسمي نحو هذا الحل العادل هو مسألة وقت.

ماذا يعني برنامج ترامب؟ يعني: إغلاق الأرشيف الإسرائيلي عن النكبة، خيانة الانظمة العربية، تكريس السيطرة الكولونيالية، في محاولة لمحو فلسطين العربية عن الخارطة، وإقامة أرض إسرائيل الكاملة مع نظام بانتوستانات للفلسطينيين.

إن الخطوة الأولى في الطريق نحو التحرر الحقيقي والحل العادل، هو تغيير الخطاب الذي نستعمله، يجب أن نتوقف عن الحديث عن: سلام، تعايش، ودولتين. ويجب أن نتحدث عن إنهاء الاستعمار، في كل فلسطين التاريخية، عبر إنشاء دولة مدنية، ديمقراطية، مع مؤسسات جديدة على أساس المساواة وبدون أي تمييز أو عنصرية، تشمل أولا عودة اللاجئين، الذين طردوا من وطنهم وبيوتهم.

إن المجتمع المدني -في جميع انحاء العالم، وخصوصاً الجيل الجديد- يؤيد بوضوح هذا الطريق، حتى الجيل اليهودي الجديد -خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا- يفهم أن هذا هو الحل الوحيد لإنهاء الصراع وبناء مستقبل مختلف لصالح الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.

إن امتلاك الفهم الصحيح للمشروع الصهيوني في الماضي وفي الحاضر هو الخطوة الأولى نحو تغيير الوعي المحلي، والإقليمي، والعالمي. أما تغيير اللغة السياسية التي نستعملها فهي الخطوة التالية.

هذان الشرطان يفتحان الباب لاشتقاق حل تحرري شامل، ويطلقا وينظما الطاقات لتحرير هذا الوطن من الاستعمار الاستيطاني لمصلحة كل من يعيش هنا وكل من طرد وهجر منذ النكبة.

إن الحق إلى جانبنا، والمجتمع المدني الفلسطيني والعربي والعالمي كلهم معنا. الأجيال القادمة لن تغفر لنا إذا لم نبذل كل جهودنا لاستغلال هذه الفرصة التاريخية.

يمكن رؤية فائدة استخدام مفهوم الاستعمار الاستيطاني للوضع في فلسطين عندما نحلل الاتفاقيات الجديدة التي وقعتها إسرائيل مع عدد قليل من أنظمة عربية. وأول ما نلاحظه هو أن هذه الاتفاقيات الجديدة تنتهك خطة السلام العربية الصادرة عن الجامعة العربية (2002)؛ في تلك الخطة، كان التطبيع مع إسرائيل يعتمد على حل القضية الفلسطينية.

ومع ذلك، فإن المشكلة أعمق من ذلك، حتى خطة الجامعة العربية للسلام تستند إلى افتراضات خاطئة، فأساس هذه الخطة هو حل الدولتين، وحل الدولتين يترك ما يقرب من ثمانين بالمِائة من فلسطين التاريخية في ظل دولة استعمارية استيطانية. كما أنه من المشكوك فيه أن يكون الحل العادل لمشكلة اللاجئين جزءًا من حل الدولتين.

والسؤال -إذن- هو: كيف نقنع الحركة الوطنية الفلسطينية بتبني استراتيجية جديدة تقوم على مبادئ قديمة؟ في الماضي، تصورت الحركة الوطنية الفلسطينية دولة ديمقراطية للجميع على كل فلسطين التاريخية، كانت هناك أفكار مختلفة حول كيفية تنفيذ هذه الرؤية، لكن الهدف الرئيس هو مبدأ الدولة الديمقراطية التي تشمل جميع اللاجئين الفلسطينيين الذين يرغبون في العودة. يجب أن تتكيف هذه الفكرة مع الواقع اليوم، لكن -بشكل عام- لا يزال المبدأ هو السبيل الوحيد لتصالح حقيقي.

من الواضح أن المرحلة الأولى تتطلب وجود حركة وطنية موحدة. ولكن من المهم أيضا تحديد تعريف واضح لمشروع التحرير الفلسطيني في المستقبل.

في مبادرتنا الجديدة، “حملة الدولة الديمقراطية الواحدة” في فلسطين التاريخية، التي يتصدر قيادتها فلسطينيون، وأنا من الأعضاء المؤسسين لها، نحن نتعامل مع كل هذه القضايا. لقد أعددنا برنامجا سياسيا من عشر نقاط نعتقد أنه أساس جيد لبناء حركة اجتماعية وشعبية من شأنها أن تقدم بديلا لحل الدولتين الفاشل وغير المنصف.

وتشتمل هذه النقاط على المبادئ الآتية: حق العودة، تفكيك التنظيمات الصهيونية، إعادة توزيع الموارد الطبيعية والاقتصادية…، ونقاط أخرى تقوم على المبادئ الأساسية في الميثاق الوطني الفلسطيني، كما تأخذ في الحُسبان وجود حوالي 7 ملايين يهودي في فلسطين التاريخية.

لا أمل -في الواقع الحالي- في تغيير داخل إسرائيل، لكننا نعتقد أن حركة فلسطينية موحدة برؤية واضحة للمستقبل يمكن أن تحظى بدعم اليهود التقدميين في العالم وفي إسرائيل.

لذلك، فالمهم هو الاستمرار في الضغط من الخارج، وضغط شعبي من الداخل، وفي نفس الوقت بناء رؤية للمستقبل، والأهم من ذلك التفكير معا في كيفية الوصول إلى هناك؛ أي استراتيجية النضال والتغيير.

أسمع الكثير من اليأس، خاصة بين العرب من الـ 48 واقتراحا للقبول بعدم وجود حل سياسي، وبالتالي فإن كل ما تبقى هو النضال من أجل الحقوق الإنسانية والمدنية. ولا أعتقد أن مثل هذا النضال يتعارض مع الحاجة إلى برنامج سياسي للمستقبل. برنامج واضح. برنامج يعتمد على المبادئ كحق العودة، كفلسطين منزوعة الاستعمار وتحقيق دولة ديمقراطية تصحح شرور الماضي وتقوم على المساواة وتكون جزءا من العالم العربي.

نحن نعلم أن هذا البرنامج يعد غير واقعي في نظر السياسيين والحكومات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك العالم العربي، لكن هل هذا الوضع يعني أننا يجب أن نتخلى عن الفكرة؟ وإذا لم نقبل هذا التصور وهذا الحل، فكيف نصل إلى هناك؟

هذا ما نحاول القيام به في مبادرتنا. ليس من السهل دفع فكرة لا تؤيدها السلطة الفلسطينية والساسة الفلسطينيون في إسرائيل، لكننا نعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد للمضي قُدُما.

في داخل إسرائيل، يقول لي الناس: إن اليهود لن يوافقوا على ذلك أبدا. صحيح، لكن أغلبية البيض في جنوب إفريقيا لم يوافقوا على إنهاء الفصل العنصري. وفي النهاية هزم نظام الابرتهايد السياسي في جنوب افريقيا( عام ١٩٩٤).

من المحتمل أن يجد بعض اليهود -وخاصة اليهود من أصل أوروبي- صعوبة في العيش في ديمقراطية حقيقية في فلسطين التاريخية. لكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من طلب ذلك. لكن قبل أن نفعل ذلك نحتاج إلى رؤية واضحة للمستقبل، وتحديد ما الذي نهدف إليه، ونحتاج إلى القيام بذلك بتفصيل كبير وليس من خلال الشعارات.

على قيادة فلسطينية ديمقراطية أن تفعل ذلك. نحن كأكاديميين وناشطين، يمكننا المساعدة، لكننا بحاجة إلى قيادة تأخذنا في هذا الاتجاه.

هناك دعوة لمنظمة التحرير الفلسطينية الجديدة، بأن تضم اليهود المعادين للصهيونية إليها، وهذا خيار. وهناك خيار آخر هو إنشاء منظمة جديدة على شاكلة المؤتمر الوطني في جنوب إفريقيا، والأمر متروك للشعب الفلسطيني لاتخاذ قرار بشأن هذا.

أنا متأكد من أن مثل هذا الاتجاه الواضح سيحفز المجتمع المدني لدعم النضال الفلسطيني، وربما سيؤثر هذا -أيضا- في الحكومات.