حيدر عيد
بعد انزلاق حركة حماس في مستنقع حل الدولتين، وقبل ذلك تورط كلا من اليسار الستاليني واليمين العلماني ممثلا بحركة فتح كبرى فصائل منظمة التحرير، تكتمل عملية سقوط البرنامج الوطني الفلسطيني المعاصر في برنامج ينحصر في نضال وطني محدود ضد استعمار كلاسيكي منزوع منه البعد الاستيطاني الذي يتميز بالتطهير العرقي و/أو الإبادة الجماعية و/أو الأبارثهيد. وبالتالي فإن انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي، أو أراضٍ، احتلتها عام 1967 يصبح الهدف المنشود.
تحاجج هذه المقالة أن الإشكالية الكبرى في تبني حل الدولتين، أو دولة على حدود 67، تكمن في القبول بإلغاء صفة الاستعمار الاستيطاني عن إسرائيل وبالتالي حصر القضية الفلسطينية بالبعد الكولونيالي الكلاسيكي. والحقيقة أنه لا يمكن الفصل تاريخياً وأيديولوجياً بين انتشار الاستعمار الغربي وامتداده على أسس فكرية عنصرية، إلى بقاع الأرض، بما فيها العالم العربي، وبداية التفكير بتصدير ما أسماه الغرب المعادي للسامية «بالمشكلة اليهودية» إلى فلسطين. تخلص هذه المقالة إلى أن النضال من أجل دولة ديمقراطية علمانية لكل سكانها يأتي في سياق برنامج تحريري يضمن إحقاق الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث، وهي فكرة شرعية وأخلاقية، على الرغم من الخلل الهائل في توازن القوى لصالح المستعمر الكولونيالي. وهذا بالضرورة يتطلب العمل على إعادة كتابة الرواية الفلسطينية.
حل الدولتين
لم يأت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأي جديد عن الواقع المعاش في فلسطين: إذا أردتم دولتين (تحت حكم إسرائيل) أو دولة واحدة (أيضا تحت حكم إسرائيل)، فالأمر سيان. ولكن مجرد إثارة إمكانية عدم الاستمرار في ترويج وهم إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67و وعاصمتها القدس، أصاب بعض القوى التقليدية، يميناً ويساراً، في مقتل.
لقد تم الترويج لهذا الحل العنصري الذي يقوم على أساس الفصل بين السكان بناءً على هويتهم الدينية، وتفضيل الهوية اليهودية من خلال اعتراف فلسطيني لا لبس به “بحق” إسرائيل، بخلاف قرار التقسيم المشئوم، بالتواجد على 77% من أرض فلسطيني الانتدابية، وبالتالي الموافقة على قوانينها الأساسية التي تعطي “الحق” لأي يهودي/ة ولد/ت في أي بقعة على سطح الأرض بالعودة إلى “أرض الميعاد،” في حين أن حق اللاجئ/ة الفلسطيني/ة قابل للتفاوض أملا بالوصول إلى حل مقبول لدى “الطرفين!”
ما يغيب بالكامل عن هذا الخطاب، الذي يُسمى خطاب “الاستقلال،” هو البعد التحريري للنضال الفلسطيني، وطبيعة الاستعمار الاستيطاني للمشروع الصهيوني. بمعنى أن الأهداف النضالية للشعب الفلسطيني قبل إطلاق مشروع حل الدولتين العنصري كانت تتمحور حول حق العودة للاجئين/ات الفلسطينيين/ات إلى الأراضي التي طُهروا منها عرقياً كضرورة موضوعية لتحقيق “الحلم” الصهيوني. ولأنه لا يمكن الفصل تاريخياً وأيديولوجياً بين انتشار الاستعمار الغربي وامتداده، على أسس فكرية عنصرية، إلى بقاع الأرض، بما فيها العالم العربي، وبداية التفكير بتصدير ما أسماه الغرب المعادي للسامية “بالمشكلة اليهودية” إلى فلسطين، من ضمن بعض الاقتراحات، تم تغليف المشروع بأبعاد دينية تعبويه، مما أدى أيضاً إلى صبغِهِ بصبغةٍ استيطانية شبيهة بالمبررات الأيديولوجية/الدينية التي صاحبت قيام دول الاستعمار الاستيطاني الأخرى مثل أمريكا وأستراليا وجنوب أفريقيا…إلخ
وكما أي استعمار استيطاني، كان يجب التعامل مع السكان الأصليين إما بالإبادة و/أو التطهير العرقي و/أو استغلالهم كأيدي عاملة رخيصة. وعليه كانت النكبة الفلسطينية المرآة المعكوسة للمشروع الصهيوني في فلسطين، وأصبحت تمثل صميم القضية الفلسطينية. فلا عجب إذاً من أن تكون قضية العودة هي صميم النضال الفلسطيني، بل أصبحت ملازمة لمفهوم العدالة كما يراها الشعب الفلسطيني. وتجسد ذلك في المشروع الوطني الفلسطيني حتى بداية تبني حل الدولتين العنصري على أسس يمينية بحت التقت مع توجهات ستالينيةمسيطرة على صناعة القرار داخل اليسار الفلسطيني الموالي للاتحاد السوفييتي.
و مع سيطرة خطاب الدولتين و تحوله إلى أيديولوجيا يتم تعبئة الجماهير الفلسطينية على أساسها تم تغيير الأولويات في المعادلة النضالية و أهدافها, فتم بدايةً الخلط المتعمد بين مقولات متناقضة و إعادة ترتيب الأولويات, وبدأ الحديث عن برنامج من نقاط 10 في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم, مروراً بما أُطلق عليه “البرنامج المرحلي” الجامع لكل القوى الفلسطينية الفاعلة, وصولاً إلى التبني الكامل لحلٍ يؤدي إلى إقامة دولة مستقلة على 22% من فلسطين, الحل الذي بالضرورة يعني الاعتراف الصريح بإسرائيل, و الضمني بقبول نتائج وجودها كدولة استعمار استيطاني قامت على أساس تفريغ الأرض من سكانها.
وأصبح خطاب التحرير، بالمفهوم الفانوني، متأخراً عن خطاب الاستقلال بمراحل مع تحول تعامل قيادة السكان الأصليين مع إسرائيل كدولة غازية قامت باحتلال أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وجزء من القدس. وتم تصنيع الشعارات اللازمة “للمرحلة” وتعبئة الكوادر، والتكرار الإعلامي الروبوتي المستمر عن “واقعية” و “براغماتية” حل الدولتين بغض النظر عن تمثيله لمكون واحد من مكونات الشعب الفلسطيني الثلاث. ومع التأييد الأمريكي الرسمي ووقوف “اليسار الصهيوني” خلف هذا الحل، اكتسب زخماً هائلاً ساعد على تهميش أي طروحات تحريرية ذات بعد ديمقراطي يتعامل مع إسرائيل كتجسيد لمشروع استعمار استيطاني جمع بين أشكال متعددة ومركبة للاضطهاد.
وكأي بروباغندا تعبويه تم الترويج لحل عنصري على أساس أنه يجسد “الاستقلال الوطني” المرجو بعيداً عما أسماه بعض المروجين له “هراء” و “عدم واقعية” البديل الديمقراطي الذي يمزج بين البعد الديمقراطي المدني والعدالة النسبية. وبدا وكأن الحديث عن العدالة، أي العودة والمساواة، هو ضرب من الخيال على الرغم من ادعاء أصحاب حل الدولتين أنهم “لم يتخلوا” عن حق العودة! في هذه الحالة إما أننا نتعامل مع سياسة تشكيل وعي زائف مؤدلج يرى أن “الاستقلال،” متجسداً برموزٍ معينة، هو تجسيد للمشروع الوطني الفلسطيني، ولا يرى الاستحالة العملية لتجسيد هكذا مشروع، أو مصالح طبقية ارتبطت عضوياً بحل الدولتين على الرغم من عدم تحقيقه الحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث. والحقيقة أن حل الدولتين تحول إلى أيديولوجيا ساهمت في تطويع تركيبة ذهنية لدى أصحابها، أو بالأحرى المنظرين “المؤمنين” بها، شبيهة بتلك التي سيطرت على زعماء المعازل العرقية الذين “آمنوا” بأن لديهم “أوطان مستقلة”–كما كانوا يطلقون عليها. عند سؤالي لأحد المقريين منهم بعد زوال نظام الأبارثهيد كان لا زال على قناعة أنهم قد فعلوا “الشيء الصحيح” لصالح أبناء “شعبهم” (قبيلتهم!)
إن موافقة بعض القوى الصهيونية على فكرة حل “الدولتين” تكمن في حقيقة أنه حل ًعنصري لا يتناقض مع البنية الأيديولوجية لمشروع الاستعمار الاستيطاني.
إنزلاقات حركة حماس والوثيقة الجديدة
في هذا السياق فإن ما يهمني من «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» لحركة حماس، هو تبنّي الحركة لحلّ الدولتين، من خلال القبول بدولة على حدود 1967. غير ذلك كله تفاصيل تدل على تغيّرات لا يمكن إنكارها، أعتقد أن أهمها هو التخلص من اللغة المعادية للسامية التي كانت طاغية في الميثاق التأسيسي.
بداية من اللافت للنظر في وثيقة حماس عدم استيعاب أن إسرائيل هي دولة أبارثهيد، وبالتالي فإن القبول ببانتوستان على 22% من أرض فلسطين التاريخية هو ترسيخ لهذا النظام الأبارتهيدي الذي يقوم على أسس عنصرية بحتة، كما يتضح من تقرير الإسكوا الأخير.
ما الغضب من الانتقادات التي توجه للوثيقة إلا نتاج ضيق أفق أيديولوجي، أو ببساطة شديدة عدم فهم للواقع الجديد الذي خلقته إسرائيل واتفاقيات أوسلو النكبوية على الأرض! وما ردود السيد مشعل غير المقنعة على الإطلاق على الأسئلة التي وجهها بعض الصحافيين إلا انعكاس لذلك. فالتعامل مع الاستعمار الاستيطاني والأبارثهيد لا يتم من خلال القبول بما يطرحه على أنه «حل واقعي» وأن المطالبة بزوال منظومته الاضطهادية المركبة هي «حل خيالي وغير واقعي”
أصبح واضحاً الآن أن وثيقة حماس الجديدة تتناسب مع التراكمات التنازلية التي صاحبت تطبيق اتفاقيات أوسلو، بل ترجع إلى التحول البرامجي لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وتبنيها بشكل لا لبس فيه حلاً يقوم على أساس أن إسرائيل هي دولة كولونيالية تمارس الاحتلال العسكري المباشر في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي تم نزع صفة الاستعمار الاستيطاني عنها والتغاضي عن أنها، وككل دول الاستعمار الاستيطاني، مارست التطهير العرقي والأبارثهيد، مع جنوحها لاستخدام أكبر جريمة حرب ضد الإنسانية بشكل بطيء، كما يحصل ضد فلسطينيي غزة، أي الإبادة الجماعية
كنا نتوقع، بسذاجة مفرطة، أن تقوم الوثيقة بتحدي حلّ الدولتين العنصري كونه لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، من حرية وعودة ومساواة. وهي حقوق كفلتها الشرعية الدولية، مما يعني أن «الوفاق الفلسطيني»، المبني على ما يُدّعى أنه إجماع دولي، يقوم على أسس وطنية مهلهلة.
ما الحل الذي يقبل بدولة فلسطينية على حدود الـ67 إلا إعادة تغليف لحل الدولتين/ السجنين عملياً، وهو ترسيخ للهيمنة الإسرائيلية بالكامل. السجن الأول يتم الوصول إليه من خلال «عملية سلام» يتم تسويقها للعالم ونتيجة «لتنازلات صعبة» تقدم عليها إسرائيل. ويصبح قطاع غزة، السجن الثاني، نموذجاً لما سيحصل لأي فلسطيني يحاول التمرد على هذا الواقع العنصري، سجن يتكدس به سكان الأرض الأصليون الذين تم طردهم من قراهم ويتوجب عقابهم بسبب أنهم لم يولدوا لأمهات يهوديات.
وعليه فإن القبول بدولة فلسطينية على حدود 67، مع استحالتها، ما هو إلا تعبير عن شرعنة السكان الأصليين لحل الدولتين/ السجنين كفضاء كولونيالي عنصري، يشمل ما يتم الترويج له على أنه الحل الأكثر واقعية، بدلاً من تحديد رؤية سياسية ضرورية للوصول إلى واقع يتخطى الوضع الراهن المتأزم، نحو أفق أكثر واقعية، واقع جديد يحفظ للفلسطيني حقوقه الأساسية من حرية وعودة ومساواة. فمبدئياً على كل فصيل فلسطيني، مقاوماً كان أو مفاوضاً، أن يعارض كل أشكال الحلول المبنية على قاعدة عنصرية وتحت أي مسمى كان. وفي هذا السياق النقدي، ربما يكون حل الدولتين، أو دولة على حدود 67، أسوأ ما توصلت إليه الوطنية الفلسطينية.
وتكمن المشكلة المستعصية في السؤال الذي عجز السيد مشعل عن الإجابة عليه بخصوص التناقض الفج بين التأكيد على عدم الاعتراف بإسرائيل، وفي الوقت نفسه القبول بدولة «بانتوستان» على حدود 67. وهذا ما يطرحه الكاتب المخضرم ديفيد هيرست في مقالته في جريدة «ميدل إيست آي» اللندنية، بعنوان «هل تذهب حماس إلى الحج والناس راجعة؟”
يقول الكاتب والناشط اللبناني سماح إدريس على صفحته على الفيس بوك في معرض تعليقه على الوثيقة الجديدة: «لا يُلدغ المؤمنُ (بالله) من الجحْر مرتين، وعلى المؤمن بتحرير فلسطين ألّا يُلدعَ من الجحر مرّات، ودائماً تحت شعارات «المرحليّة» و«الواقعية» و«الضرورات» و«التكتيك». لا يهمّ «التمسكُ بكامل التراب الفلسطينيّ» حين توافق «موقّتاً» (!) على دولتين، إحداهما صهيونيّة عنصريّة إحلاليّة احتلاليّة على 78% من تراب فلسطين.
وهكذا، ومع سيطرة خطاب الدولتين وتحوله إلى أيديولوجيا تتم تعبئة الجماهير الفلسطينية على أساسها تم تغيير الأولويات في المعادلة النضالية وأهدافها، فتم بدايةً الخلط المتعمد بين مقولات متناقضة وإعادة ترتيب الأولويات.
والحقيقة أن القبول بدولة على حدود 67 يعني أيضاً إعادة تعريف النضال الفلسطيني وأهدافه من حيث تصغيره إلى مقاومةٍ ضد الاحتلال العسكري المباشر للضفة والقطاع فقط، مع تجنب الحديث عن الأشكال الأخرى للاضطهاد الصهيوني. ويتم الخلط بين التكتيك والاستراتيجية بطريقةٍ «فهلوية» تصغر الهمّ الفلسطيني إلى معاناة سكان الضفة الغربية وقطاع غزة كونهما «الدولة الفلسطينية» المنشودة. ويأتي ذلك كله على أساس أن الدولة على حدود 67 ما هي إلا تعبير عن «توافق وطني!» وكأن «التوافق» – الذي نفتحركة الجهاد الإسلامي وجوده مثلاً – يعني تصغير الشعب الفلسطيني إلى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، بما أن دولة فيهما هي تجسيد «لمصالح» سكانهما.
ماذا يعني أن يصل فصيل مناضل بعد 30 عاماً من انطلاقه وسقوط آلاف الشهداء من كوادره وأنصاره، إلى أن الحل العنصري التصغيري الإقصائي هو الحل الأكثر «واقعية» في المرحلة الحالية؟
تناقض حل الدولتين وحل الدولة الواحدة!
و كان قد كثر في الفترة الأخيرة الحديث عن عدم جدوى الدخول فيما أطلق عليه ‘ثنائية حل الدولة و حل الدولتين”، و هذا من وجهة نظري المتواضعة هروب من ضرورة طرح رؤى سياسية خلاقة، و عملية، من قبل المستعمَر المضطهَد كونه من ناحية يناضل ضد أشكال متعددة من الاضطهاد، و من ناحية أخرى يمتلك الأرضية الاخلاقية العليا التي يجب وضعها في سياق تحرري. إن تمسك الحركة المقاومة لنظام الأبارثهيد، الجبهة الديمقراطية المتحدة، في القرن المنصرم لعشرات السنين ببرنامج يتحلى برؤية سياسية واضحة المعالم-صوت لكل مواطن-لم تعتمد أساساً على المساواة بين حل عنصري يقوم على أساس الفصل بين السكان بسبب العرق أو المعتقد الديني من ناحية، حل ال 5 دول المستقلة، وبين حل تحرري يقوم على أساس المساواة الكاملة في فضاء ديمقراطي تعددي، أي حل الدولة الديمقراطية الواحدة، وهو حل لا يتناقض مع القانون الدولي، كما يحاجج البعض.
الحقيقة أن أحد الفوارق الجوهرية بين حل الدولتين و حل الدولة هو أن الأول يعتبر أن الصراع في جوهره هو بين قوميتين لهما، ضمنيا ، حقوق تاريخية و قومية متساوية، مع ارتباط ذلك بالأرض. في حين أن الحل الثاني يتعامل مع البعد العرقي في إطار استعمار استيطاني وبالتالي يشمل المساواة و العودة كحقوق أصيلة للسكان الأصليين. و في هذا السياق أيضا ًتأتي المعارضة المبدئية لحل ثنائية القومية.
و أن إلصاق صفة “ثنائية” على الطرحين غير دقيق و يضعهما في كفتين متساويتين من ناحية القيمة و الهدف، و أن كانا متناقضين، بالتالي يحتاج لمراجعة. فلم يكن بالإمكان الحديث، مثلا، عن “ثنائية ” المساواة (في إطار ديمقراطي) و الأبارثهيد! بمعنى ان الأمر يتخطى الثنائية إلى تناقض الأضداد. وما لا يأخذه هذا الطرح بعين الاعتبار أيضا هو أن حل الدولتين الذي يجب أن يتم رفضه بسبب عنصريته لا يتعامل مع الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث على عكس حل الدولة الواحدة.
إسرائيل تمارس أشكالا مركبة من الإضطهاد المرتبطة بطبيعتها كدولة استعمار استيطاني. و بالتالي فإن التعامل مع شكل واحد من هذه الأشكال المتعددة هو تنازل خطير عن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث! و هنا يمكن خطر حل الدولتين، العنصري بطبيعته الإقصائية، من حيث كونه يتعامل مع مكون واحد من مكونات الشعب الذي يمارس ضده القهر الاستعماري, على الرغم من احتفاء قيادة هذا المكون بهكذا حل و تمجيد مفهوم “الاستقلال” على حساب التحرير. المقارنة الفورية عادة ما تكون مع المعازل العرقية, البانتوستانات, الجنوب أفريقية سيئة الصيت. فلا شك أن تصنيم فكرة الإستقلال تم استغلالها بذكاء من قبل مهندسي نظام الأبارثهيد حيث قاومول برمي هذا “الجزرة” شكلياً لقيادات محلية تفاخرت بأنها أقامت ما أسمته “أوطان مستقلة” (Independent Homelands)
البديل الديمقراطي
و الحقيقة انه كان قد تم تبنّى العديدُ من النشطاء والكتّاب الفلسطينيين، أبرزهم الراحل إدوارد سعيد” حلَّ “الدولة الديمقراطيّة الواحدة على فلسطين التاريخيّة” منذ فترةٍ ليست بالقصيرة. إلّا أنّ الحديث عن “حلّ الدولة الواحدة” غدا موضةً إعلاميّةً او فزاعة يستخدمها بعد الفلسطينيين لتخويف إسرائيل!
و الحقيقة إنّ فلسطين اليوم دولة واحدة فعلًا: دولةُ أبارثهيد (فصل عنصريّ) ينطبق عليها حرفيًّا التعريفُ القانونيُّ للأبارثهايد و نظام احتلال عسكري.
والغريب في الأمر هو, على العكس مما حصل ضد نظام الأبارثهيد, عدم اقتناع القيادات الوطنية بإنّ خطاب “الدولتين” يقوم على أساس عنصريّ، وهو في المحصّلة النهائيّة خطابُ كراهيةٍ وعزلٍ “للآخر.” من المثير للاستغراب، في هذه الحالة، الدفاعُ، المستميتُ أحيانًا، عن هذا الطرح من قبل المضطهَد الفلسطينيّ، إلى حدّ أنّ ردودَ أفعالٍ فلسطينيّةً كثيرةً لامست الهستيريا الوجوديّة واعتبرتْ أنّ “فكرة دولة واحدة يتساوى فيها الجميعُ محضُ هراءٍ وغيرُ ممكنة!” وبالتالي يصبح أيُّ بديلٍ ديمقراطيّ للحل العنصريّ “مرعبًا.” وفي الوقت نفسه يصبح الحلُّ الإنسانيّ الذي يتطابق مع “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان” ومع الشرعيّة الدوليّة ــــ وهو حلٌّ مطبّقٌ في “الديمقراطيّات الليبراليّة” ــــ فزّاعةً يستخدمها بعضُ السياسيين الفلسطينيين لتخويف إسرائيل والشعب الفلسطينيّ والمجتمع الدوليّ!
“حلّ الدولة الديمقراطيّة على كامل فلسطين التاريخية” هو حلٌّ إنسانيٌّ يتخطّى “سياسات الهويّة” السائدة لدى الأوساط اليمينيّة. إنّه حلٌّ أخلاقيّ، وبراغماتيٌّ في الوقت نفسه، يقوم على أساس القيم التي تأسّستْ عليها المنظومةُ الدوليّة الحديثة، منظومةِ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، بغضّ النظر عن الدين والعِرق والجنس.
هذا هو صميم الاختلاف بين مَن ناضلوا من أجل إنهاء الأبارثهيد في وصفه تجسيدًا لأسوأ ما جاءت به الإنسانيّة، ونظامًا وريثًا لمرحلة العبودية؛ وبين مَن ناضلوا من أجل مجتمع منفتح، ديمقراطيّ، يمثّل الجميع. وهذا أيضًا هو جوهرُ الاختلاف بين ما يسمّى “حلّ الدولتين (العنصريّ)” في فلسطين و “حلّ الدولة الديمقراطيّة الواحدة.”
كون الشعب الفلسطيني, بمكوناته الثلاث يمتلك الأرضيّة الأخلاقيّة العليا في نضاله ضدّ الاستعمار الاستيطاني المركب، فإنّ الرؤية السياسيّة التي يتبنّاها لا يمكن إلّا أن تكون إنسانيّة تحرّريّة بالمعنى الشامل للكلمة.
(نُشرت في موقع “جدليّة”)