عن تقرير منظمة العفو الدولية وبعض ردود الأفعال الفلسطينية

حيدر عيد

أثار تقرير منظمة العفو الدولية (آمنستي إنترناشيونال) عن عنصرية إسرائيل العديد من ردود الأفعال المتوقعة من مؤسسة الحكم الأشكنازي في إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها, و على راسها الولايات المتحدة ولكن اللافت للنظر هو عدم قدرة البعض الفلسطيني على استيعاب أن إسرائيل هي دولة أبارثهيد وبالتالي يجب تطبيق القانون الدولي بحقها من خلال مقاطعتها وسحب الاستثمار منها ومن الشركات الدولية التي تستفيد من نظامها الأبارثهيدي ومن ثم فرض عقوبات دولية عليها.

البعض الفلسطيني، وللأسف، يشتاط غضباً، بالسر، عندما يتم وصف إسرائيل بأنها دولة استعمار استيطاني تمارس، ضمن الأشكال المتعددة للاضطهاد، جريمة الأبارثهيد، وهي ثاني أكبر جريمة ضد الإنسانية بعد الإبادة الجماعية. وما هذا “الغضب” إلا نتاج ضيق أفق أيديولوجي، أو ببساطة شديدة عدم فهم للتقرير، بعد قراءة تقارير صحفية عنه بدلاً من قراءته نفسه. والحقيقة أن تجربتي الشخصية ومن خلال عدة نقاشات مع أناس ينتمون لتيارات سياسية متعددة، بالذات “اليسار القومجي المتطرف”، تشير في هذا الاتجاه حيث أن العديد من المحسوبين على هذا التيار يتحفظون حتى على على استخدام كلمة “أبارثهيد” في وصف النظام الحاكم بين نهر الأردن و البحر المتوسط. و ذلك نابع من عدم قدرة هذه التيارات عن التخلي عن نظاراتها الأيديولوجية المتصلبة التي لم تعد قادرة على فهم التطورات العالمية, و حتى المحلية, و بالتالي تتجنب التعامل مع أدوات نضالية غير مألوفة لديه. ناهيك عن عدم اقتناع اليمين بأهمية الربط بين نضالات و أهداف كل مكونات الشعب الفلسطيني.

إن صفحات التقرير كلها تشير إلى أن إسرائيل تمارس سياسة الأبارثهيد بشكل فج. و عنوان التقرير بحد ذاته عبارة عن صفعة على الخد الليبرالي الأبيض المؤيد لمنظومة الاستعمار الاستيطاني: نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين نظام قاسٍ يقوم على الهيمنة و جريمة ضد الإنسانية. وفي اعتقادي أن عدم قدرة “النخب” الفلسطينية على استيعاب ذلك نابع ليس فقط من التراكمات التنازلية التي صاحبت تطبيق اتفاقيات أوسلو، بل ترجع إلى التحول البرامجي لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وتبنيها بشكل لا لبس فيه حل يقوم على أساس أن إسرائيل هي دولة كولونيالية تمارس الاحتلال العسكري المباشر في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبالتالي تم نزع ضفة الاستعمار الاستيطاني عنها، والتغاضي عن أنها، وككل دول الاستعمار الاستيطاني، مارست التطهير العرقي والأبارثهيد، مع جنوحها لاستخدام أكبر جريمة حرب ضد الإنسانية بشكل بطيء، كما يحصل ضد فلسطينيي غزة، أي الإبادة الجماعية.

إن جريمة الأبارثهيد التي تم التعامل معها عام 1973 على أنها جريمة تحتوي على التفرقة العنصرية المتعمدة و التي تهدف للحفاظ على نظام هيمنة و سيطرة عرق على آخر، تنطيق حرفيا على إسرائيل في تعاملها مع كل مكونات الشعب الفلسطيني, أولئك الواقعين تحت احتلال عسكري مباشر و استعمار استيطاني يميز بينهم و بين المستوطنين اليهود في كل من الضفة الغربية و قطاع غزة, فلسطينيو ال48 و الذين يعاملون كمواطني درجة ثالثة لا يتمتعون بنفس حقوق الإسرائيليين اليهود, و المقادسة الذين يعاملون بطريقة مختلفة و يتعرضون لتطهير عرقي ممنهج، و أخيراً اللاجئون الذين ينطيق عليهم قرار الأمم المتحدة 3236 الذي يمنحهم الحق في العودة “غير قابل للتصرف.”

تكمن أهمية قراءة هذا التقرير في عدم وجود أي حل سلمي في الأفق، حل يقوم على أساس واضح من العدالة التي تأخذ بعين الاعتبار حقوق كل مكونات الشعب الفلسطيني بعين الاعتبار دون تمييز، أي تجنب الحلول التجميلية التي كان نظام الأبارثهيد الأم أيضاً يطرحها مثل التكرم بمنح الأفارقة، أي سكان الأرض الأصليين، “أوطان مستقلة” على جزء من أرض جنوب أفريقيا، أو الادعاء بوجود “حوارات بناءة” مع بعض الممثلين للسكان مدعومة من بعض الدول الغربية، مع التأكيد على أولوية “أمن السكان البيض.”

والحقيقة هي أن التقرير يتعامل بشكل واضح مع القضية الفلسطينية من منطلق حقوقي بحت ويتجنب الدخول في الحلول السياسية وفي مناظرة حل الدولتين أو الدولة الواحدة. كما أنه بطريقة ما يدعو لتطبيق القانون الدولي فيما يخص التعامل مع جريمة الأبارثهيد أي فرض عقوبات على إسرائيل حتى تستجيب للشرعية الدولية دون أن يذكر ذلك صراحة, و هذا ما يتحتم علينا نحن القيام به. وبالتالي فإن أي معارضة فلسطينية، وإن لم تظهر للعلن، تعارض الصوت الفلسطيني الذي ساهم بالتأثير على كاتبي هذا التقرير التاريخي. ومن ثم فإننا يجب أن نتبناه بالكامل والعمل على ترويجه, بالذات بعد صدور هذا التقرير الثالث خلال عام من أهم منظمات حقوق إنسان عالمية تحظى باحترام شديد لدى الأوساط الليبرالية الغربية، و العالمية بشكل عام.

وعلى الرغم من عدم تبني التقرير لأي حل سياسي للقضية الفلسطينية، وهذا يحسب له حيث أن ذلك متروك للمضطهَد الفلسطيني، فإنه قد آن الأوان لتحدي حل الدولتين العنصري كونه لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، من حرية وعودة ومساواة. وهي حقوق كفلتها الشرعية الدولية، مما يعني أن “الإجماع” الفلسطيني،” المبني على ما يُدّعى أنه إجماع دولي، يقوم على أسس قانونية مهلهلة! و كما يحاجج المؤرخ الإسرائيلي الشجاع إلان بابيه في كتابه الأخير (أكبر سجن على سطح الكرة الأرضية)، عند قيام إسرائيل باحتلال الضفة الغربية و قطاع غزة عام 1967، كان هناك شبه إجماع داخل الكبينت الإسرائيلي أن كلا القطعتين يشكلان جزء من أرض إسرائيل، ولكن الخلاف كان على كيفية إدارتهما، إما (كسجن مفتوح) يتحرك النزلاء “المطيعون” داخله بحرية، مع إعطائهم تصاريح للخروج منه, و الثاني (معسكر اعتقال كبير) يتم حصارهم به! وأن احتلال مناطق ال67 عسكرياً ما هو إلا امتداد للحكم العسكري الذي كان مفروضاً على مناطق ال48 حتى عام 1966. وأن الرأي العام الإسرائيلي كان يؤمن أن عدم احتلال الضفة عام 48 كان خطأً كبيراً، وبالتالي كان الخلاف ليس على مبدأ الاحتلال نفسه، بل على كيفية إدارة “المناطق”. وبالتالي فإن “عملية السلام” تستخدم للمحافظة على أراضي الضفة الغربية.

وهكذا يصبح حل الدولتين/السجنين عملياً ترسيخ للهيمنة الإسرائيلية بالكامل. السجن الأول يتم الوصول إليه من خلال “عملية سلام” يتم تسويقها للعالم ونتيجة “لتنازلات صعبة” تقدم عليها إسرائيل، و يصبح قطاع غزة، السجن الثاني، نموذجاً لما سيحصل لأي فلسطيني يحاول التمرد على هذا الواقع العنصري، سجن يتكدس به سكان الأرض الأصليين الذين تم طردهم من قراهم و يتوجب عقابهم بسبب أنهم لم يولدوا لأمهات يهوديات!

ما قام به تقرير “أمنستي” هو توصيف قانوني دقيق لهذا الفضاء العنصري، الذي بالضرورة يشمل ما يتم الترويج له على أنه الحل الأكثر واقعية، أي حل الدولتين، تاركاً للفلسطيني تحديد الرؤية السياسية المطلوبة للوصول إلى واقع يتخطى (الستاتس كو) نحو أفق أكثر واقعية, واقع جديد يحفظ للفلسطيني كرامته الإنسانية.


حيدر عيد أستاذ مشارك لمادة الادب الخاص بفترة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة في جامعة الأقصى – غزة، وعضو في حملة الدولة الديمقراطية الواحدة