عن اليسار الفلسطيني: وجهة نظر نقدية

حيدر عيد

عرض مقتضب لكتاب (تهاوي اليسار الفلسطيني)

قمت في الفترة الأخيرة بقراءة كتاب (تهاوي اليسار الفلسطيني: المعارضة الموالية) بطلب من قسم الدراسات الآسيوية والشمال-أفريقية في جامعة بولونا الإيطالية لمناقشة الكاتب/الباحث فراسيسكو ليوباردي الذي أمضى عدة سنوات في البحث و القراءة و المقابلات لينتج عملاً نقدياً جاداً قد يثير حفيظة الرفاق في الجبهة الشعبية كون الكتاب يركز على حالة الجبهة. يجادل الكتاب أن الجبهة الشعبية, كونها الفصيل اليساري الأكبر، قد أصبح فصيلاً تتحكم في مواقفه التجاذبات السياسية الداخلية في إطار م.ت.ف، و من خلال تبنيها ما يسميه الكاتب سياسة (المعارضة الموالية.)

فشل اليسار في تشكيل البديل

يتناول هذا الكتاب النقدي الموثق والذي يعتمد على بحث موسع لمدة تزيد على عشر سنوات تاريخ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خلال فتره انحدارها السياسي و الأيديولوجي و الجماهيري ما بين عامي 1982، اي عام الخروج من بيروت، وعام 2007، أي عام الانقسام بين حركتي فتح وحماس كمممثلتين لليمين الفلسطيني، العلماني و الإسلاموي. إن اختيار الجبهة الشعبية بالذات لدراسة تدهور اليسار الفلسطيني، الستاليني بغالبيته و إن كان بدرجات متفاوتة، جاء من منطلق ظاهرة عامة ميزت انحدار عام للحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام واليسار الفلسطيني بشكل خاص، و من منطلق أن تراجع الجبهة الشعبية يعكس بالضرورة انحدار اليسار الفلسطيني، و ان اليسار كان قدم نفسه على انه البديل لهيمنة حركه فتح كممثل لليمين العلماني البرجوازي و لصعود حركه حماس التي تمثل اليمين الديني. إن ادعاء اليسار الفلسطيني، بالذات الجبهة الشعبيه لتحرير فلسطين، انه يمثل نقيض الهيمنة السياسية لمشروع حركه فتح داخل منظمة التحرير يتناقض عملياً مع سياسة الموالاة التامة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تهيمن عليها حركه فتح بشكل تام. في هذا السياق يطلق الكاتب مصطلح “المعارضة الموالية” التي ميزت مسيرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و تطلبت بالضروره التخلي عن دورها في مواجهه الهيمنة الفتحاوية، وبالتالي تقويض سبب وجودها كيسار ثوري يناضل من اجل اقامة دولة اشتراكية ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني. و أكثر ما ميز ذلك، تبعا للكاتب، سياسة “التذبذب” في المواقف التي تم اتخاذها في القضايا الحاسمة:

-الحرص المبالغ به على وحدة المنظمة على حساب المواقف المبدئية التي ميزت الجبهة في بداياتها، وظهور البديل الإسلاموي

-تحوّل الجبهة من الرفض التام إلى القبول بنظام ما بعد أوسلو السياسي

–توافق الجبهة النهائي مع السلطة الوطنية الفلسطينية و تكاملها داخل الكتلة المهيمنة التقليدية، مما أدى للحالة الراهنة من عدم قدرة على الانسحاب من الإطار السياسي المختل و اتباع سياسة “الانسحاب من المشاركة” كبديل ثوري.

يركز الكتاب على “انعدام الكفاءة السياسية” كمظهر من مظاهر التدهور اليساري الذي جسدته الجبهة الشعبية نتيجةً لعوامل ذاتية اكثر من العوامل الموضوعية الخارجية. وهذا بدوره أدى الى وصول الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام والجبهة بشكل خاص الى “أزمة مستعصية الحل.” وبالتالي فان غياب يسار فلسطيني فاعل يعتمد عليه أصبح جزءا لا يتجزأ من الشلل السياسي الذي تعاني منه الحركة الوطنية الفلسطينية في ظل هجوم غير مسبوق على الحق الفلسطيني في تقرير المصير.

باختصار يعالج الكتاب كيفية تعامل اليسار الماركسي الفلسطيني مع مفهوم “الوطنية” بشكل عام، وفي إطار التحالف في حركة التحرير الوطني، بمعنى ان الكتاب يعالج قضية العلاقه بين الوطنية والماركسية في ظل خطاب يميني مهيمن على حركه التحرير الوطني.

هذه المراجعة السريعة لا تعطي البحث حقه, وكم كنت أتمنى أن يقوم به أحد كوادر اليسار الفلسطيني من منطلق النقد الذاتي الغائب بصورة شبه كاملة، مع وجود بعض الاستثناءات التي لا تكسر القاعدة.

لكن الحقيقة النقدية تتطلب الاعتراف بوجود أزمة حادة، حيث تبرز بعض الأسئلة المحورية عن غياب البديل في ظل تغول الأيديولوجيا اليمينية، وطنياً وإقليمياً. وما يلفت النظر في هذا السياق هو الغياب الملحوظ لليسار الفلسطيني وعدم ارتقائه للدور المنوط به تاريخياً.

هذا الغياب يشير إلى فقدان هذا المكون الأساسي لحركة التحرير الفلسطيني شعبيته، واختزاله من المشهد السياسي لصالح الثنائية السياسية التي تحكم بسلطة «الشرعية» أو بسلطة «الأمر الواقع”.

ما بين أسلوة و الأنجزة


تميّزت التجربة الأوسلوية سياسياً بالحديث عن المفاوضات كأنجع الطرق للوصول إلى حلٍّ سياسي للقضية الفلسطينية على أساس ما اتُّفق على تسميته «حلّ الدولتين»، أي من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة على 22% من أرض فلسطين التاريخية بجوار دولة إسرائيل بعد الاعتراف بها. روجت ثقافة «السلام» التي أنتجها اتفاق أوسلو من خلال سياسة ناعمة إلى «عدم واقعية» المطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى القرى والمدن التي طُهِّروا منها عرقياً عام 1948، وبالتالي اختزال حق تقرير المصير، المكفول دولياً، في الجزء الذي احتل عام 1967 وذلك من خلال الترويج للاستقلال بطريقة ديماغوجية عبر الادعاء بالإجماع فلسطينياً عليها.
دعمت الأحزاب اليسارية خيارات السلطة الوطنية الفلسطينية للوصول إلى حلّ سياسي يؤدي إلى الاستقلال الوطني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وللترويج لهذه الفكرة، جرى ضخّ كمية من الأموال المُسيَّسة في خزينة السلطة الوطنية تضمن شراء الولاءات وتضخيم الجهاز البيروقراطي المرتبط بها. وفي المنحى غير الحكومي، تأسست منظمات أهلية تميزت في ولائها لتنظيمات كانت تحمل أيديولوجيا يسارية. وعلى الرغم من الرصيد الثوري التاريخي الغني لليسار، إلا أن مصالحها تقاطعت مع المصالح الطبقية للنخبة السياسية الأوسلوية، فانصاعت لشروط ممولي المنظمات الأهلية التي بدورها استوظفت القيادات والكوادر اليسارية الفاعلة منها.
تورط اليسار الفلسطيني في مسار أوسلو في السنوات الماضية وقبِل ضمنياً اتفاقيات أوسلو، على الرغم من ادعائه معارضتها. لم يعارض جزء من أحزاب اليسار اتفاقيات اوسلو، بل إن البعض تبوأ مناصب وزارية تقريباً في كل حكومةٍ تشكلت منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، بالرغم من تبني تلك الحكومات سياسة نيوليبرالية تتعارض مع الحد الأدنى من حقوق الطبقات المسحوقة التي تمثلها تلك الأحزاب. كذلك فعلت أحزاب يسارية أخرى عبر تبنّيها لفكرة «الحل المرحلي» ومن ثم «حل الدولتين» الذي أثبتت التجربة أنه يقوم على أساس الفصل العنصري بين السكان في كيانين منفصلين بناء على هويتهم الإثنية ــ الدينية.
أثّرت فترة ما بعد أوسلو على أحزاب اليسار التي شهدت تحولات اجتماعية وثقافية تمثلت في غياب واضح لأدوات التحليل الطبقي المستمدة من النهج الماركسي التي تستند عليها أدبيات التنظيمات اليسارية باعتبارها أهم أدوات التحليل لدور العلاقات الاقتصادية ـ الاجتماعية. انخرط اليسار في علاقة تبنّت سياسة التبعية الاقتصادية بالكامل للاقتصاد الإسرائيلي الذي يرنو إلى تغيير الوعي وإنتاج قيم وانماط سلوك سياسية وأخلاقية مختلفة.


ساهم التراجع في سياسة النقد التي ميّزت اليسار الفلسطيني تاريخياً، في تبني تلك القيادات سياسات اقتصادية – اجتماعية مغرقة في نيوليبراليتها نتيجة لتماهي مصالح القوى اليسارية مع القوى الطبقية المهيمنة على صناعة القرار الفلسطيني وتغييب البعد الطبقي في تحليل العلاقات الاجتماعية السائدة. غياب ما كان يسمى «بالبعد الاجتماعي» في تحليل العلاقة مع المستعمِر ساهم في حالة التماهي التي تمر بها البرجوازية الفلسطينية المهيمنة مع المنظومة الاستعمارية والتي أصبحت تتحلى بطابع بنيوي. ومع تحوّل مهام البرجوازية الوطنية إلى وسيط سياسي مع النظام الاستعماري، تراجعت المهام النضالية الاجتماعية لليسار كونه أصبح مرتبطاً بمصالح الطبقة المهيمنة على كل من السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

أصبح اليسار الفلسطيني جزءاً من النخبة الفلسطينية المتكيفة مع الواقع الاستعماري ما-بعد-الأوسلوي وما أنتجه هذا الواقع من وعي زائف غلب المصالح الفردانية الاستهلاكية على حساب الطبقات الكادحة التي يفترض أن اليسار يمثلها. وبدلاً من مراجعة قوى اليسار لسياساتها والأسباب التي أدت إلى هزيمتها في انتخابات المجلس التشريعي في عام 2006 من خلال عملية نقد ذاتي ضرورية، انخرطت أكثر في السعي للحصول على امتيازات أخرى.


بالرغم من بعض المواقف المعارضة التي تمارسها الأحزاب اليسارية، إلا أنها تبقى في إطار شكلي ولم تتطور إلى خطواتٍ عمليةٍ تخلق تحدياً ملموساً للواقع الذي أحدثته الاتفاقيات. فالأجندة السياسية الاقتصادية النيوليبرالية المغرقة في يمينيتها التي تبنتها السلطة الوطنية الفلسطينية، لم تحث اليسار الفلسطيني على اتخاذ موقفٍ عمليٍ ضاغطٍ على السلطة الوطنية ومواقفها المتكررة المتنكرة لحق اللاجئين بالعودة، أو موقفها الثابت من التنسيق الأمني «المقدس.”


ساهمت أوسلو في تفريغ اليسار من مضمونه وبرنامجه الثوري وحال دون التقدم ببرنامج نضالي عملي يتحدى الأيديولوجيا النيوليبرالية السائدة، ويدافع عن حقوق الطبقات الشعبية الكادحة التي أيد العديد من مناصريها التيارات اليمينية الدينية كما أظهرت نتائج انتخابات 2006، وقبلها انتخابات المجالس البلدية، و انتخابات مجلس طلاب جامعة بيرزيت 2017، والتي هي أكثر جامعات فلسطين ليبرالية وعلمانية.
من المؤكد أن اليسار الفلسطيني لم يرتق، في هذه المرحلة المحورية، إلى مستوى المهمة التاريخية الملقاة على عاتقه والتي يجب أن تتخذ من المقاومة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أعمدة للنضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة. قد يكون العجز في تخطي الوضع الراهن أو تحديه، والتكيف مع الوقائع الجديدة هو نتاج العبء الثقيل لميراث الحقبة القديمة التي ما زالت تكتم أنفاسه. ولكن لا بد هنا لليسار الفلسطيني أن يراجع تجربته ويتعلم من التجارب والخبرات والدروس الأممية، بالذات من يسار أميركا اللاتينية ومن الحركات الاجتماعية البارزة في الغرب ودول العالم النامي من جنوب أفريقيا إلى الهند.
إن تفريغ اليسار من تراثه الثوري وتخليه عن دوره التمثيلي للطبقات الشعبية الكادحة التي تدفع ثمناً باهظاً نتاج عملية نيولبرلة الاقتصاد الفلسطيني، يدفع بتلك الطبقة إلى التكيف مجبورة مع أطر أخرى. فبدلاً من التصدي للتوحش الرأسمالي الطفيلي نيابة عن الطبقات الاجتماعية المهمشة، بالذات في المخيمات الفلسطينية، فإن العديد من القيادات اليسارية اختارت الانحياز الطبقي للفئة الحاكمة بشكل عام. وفي هذا السياق، يخضع اليسار حالياً لثنائية الأمر الواقع، أي ثنائية فتح وحماس، من باب أهمية الحفاظ على الثوابت والوحدة وحماية أبناء الشعب الفلسطيني، ومن دون اتخاذ أي خطوات عملية تتحدى من يضعف هذه الثوابت ويساهم في معاقبة الشعب بمكوناته الثلاث، بالذات سكان القطاع المحاصر.


وفي حين يرى الخطاب السياسي السائد في فلسطين اتفاق أوسلو، ومؤسسة السلطة الفلسطينية النابعة عنه، على أنهما المسار السياسي الوحيد المؤدي إلى دولة فلسطينية؛ الا أن هذا التحليل ينكر قدرة الشعب الفلسطيني على خلق واقع موضوعي جديد، ويعتمد، بدلاً من ذلك، على معونات الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والأنظمة العربية للوصول إلى هذه الدولة السراب.


يبدو أن اليسار الفلسطيني أصبح في أمسّ الحاجة لتقديم تحليل جدلي للواقع الحالي في فلسطين، وبرنامج بديل والبحث عن أدوات نضالية مناسبة بعيداً عن الشعارات التي تتناسب مع مراحل تاريخية سابقة. يستطيع المرء أن يفهم عجز التيارات الدينية اليمينية عن طرح بديل ثوري، لعجزها الفكري وبنيتها الأيديولوجية الإقصائية. ولكن، على القوى الديمقراطية أن تكون قادرة على طرح هكذا بديل، بعيداً عن مكاتب السلطة والأجهزة والمؤسسات الأهلية. ل


ينبغي لليسار الفلسطيني أن يوجه طاقاته لمحاربة نتائج اتفاقيات أوسلو النيوليبرالية، وان يعيد تجميع قواه في جبهة موحدة على أساس برنامج اجتماعي تنموي. كما يجب الاستفادة من تجربة انتخابات المجلس التشريعي 2006 والبناء عليها. ومحاربة اتفاقيات أوسلو وملاحقها الاقتصادية وبرامجها الاجتماعية التي أدت إلى زيادة نسب الفقر والبطالة بدرجة غير مسبوقة. وإذا لم يكن اليسار الفلسطيني قادراً على تطوير برنامج ثوري بديل وهيكلته والتخلص من خرافة حل الدولتين وتطوير برامج اجتماعية تتخطى المصالح الطبقية الضيقة لقياداتها التي استسلمت لمواقع تحد من قدرتها على الإبداع النقدي الخلاق، فالأجدر به أن يعلن فشل مشروعه السياسي وبرنامجه الأيديولوجي. للاسف كل المؤشرات تشير إلى أن اليسارالستاليني قد فقد القدرة على تحمل هذه المسئولية التاريخية.

.