أثار التقرير الذي أنجزته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية و الاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) بعنوان “فلسطين و الاحتلال: الممارسات الإسرائيلية نحو الشعب الفلسطيني و نظام الفصل العنصري,” و التوصيات التي خرج بها من تبني للنداء الذي أصدره المجتمع المدني الفلسطيني عام 2005 بضرورة مقاطعة إسرائيل و فرض عقوبات عليها على نمط ما حصل ضد نظام الأبارثهيد الأم، العديد من ردود الأفعال المتوقعة و غير المتوقعة. الغريب نوعاً ما هو أن بعض هذه الردود جاء من “مثقفين” فلسطينيين و عرب لم يطلعوا على التقرير و أصدروا أحكاماً عليه بناءً على أفكار مؤدلجة مسبقة تعتقد أن واستخدام مصطلح “الأبارثهيد” لوصف أحد أساليب القمع المركب الممارسة ضد الشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث هو “تصغير” و تقليل من شأن احتلال إسرائيل لفلسطين! و قام البعض بربط ذلك بحل الدولة الواحدة, ممل يشكل خطراً على “المشروع الوطني الفلسطيني” الذي يتجسد بإقامة دولة فلسطينية مستقلة لسكان الضفة و الغربية و قطاع غزة فقط!
فلقد غاب عن التيار الوطني الرئيسي الحديث عن الأبارثهيد الإسرائيلي بشكل عام أو بالذات تجلياته في القوانين الأساسية الإسرائيلية و كونه ممأسس بطريقة مشابهة وفي نفس الوقت مختلفة عن الأبارتهيد الأم وتطبيقاته على فلسطين 48 وسكان الأرض الأصليين.
إن أهمية التقرير المذكور تكمن في تعامله قانونياً مع إسرائيل كدولة تمارس اضطهاداً مركباً بحق الشعب الفلسطيني، أحد أهم تجلياته، سياسة الأبارثهيد، المطبقة بشكل عنصري فج ليس فقط في الضفة و القدس و غزة, بل أيضاً في فلسطين 48 . و ما سياسة الاحتلال في مناطق ال67 إلا انعكاس لممارسات كولونيالية و امتداد لاستعمار استيطاني عنصري قائم منذ عام 1984على أساس تطهير عرقي ممنهج للسكان الأصليين، و كل ذلك يقوم على بنية أيدولوجية ذات تعالي عنصري .
إذا كان هناك شيء يتحدث عنه السكان السود في جنوب أفريقيا ، كأقصى أنواع الاضطهاد والتعذيب فهو الحد من حرية الحركة وتنقلهم بواسطة ما يسمى “Pass Card “وهو ما يذكّر بالتصاريح التي تصدرها سلطات الاحتلال هنا لقلة قليلة من سكان قطاع غزة و الضفة الغربية ، ولكن الفرق أن السود في ج.أ كانت حركتهم مسيطر عليها ، و هنا نحن ممنوعون كليا من الحركة.
فما هو الأبارثهيد ؟
هو سياسة الفصل على أساس العنصر أو الإثنية ومؤسس على مجموعة من التطبيقات التمييزية لصالح فئات محددة تضمن تفوقها العنصري على حساب فئة أخرى. وفي إسرائيل التفرقة العنصرية الممأسسة تقوم على أساس ضمان تفوق مجموعة من اليهود المستوطنين على السكان العرب الفلسطينيين وبشكل لا لبس فيه. وبنظرة مقارنة حول التطبيقات العملية لهذه السياسة من الصعب إيجاد فوارق بين الحكم الأبيض في ج.أ والاسرائيلي في فلسطين من فصل بين السكان ، مناطق لليهود الإسرائيليين ومناطق للعرب ، قوانين لليهود وقوانين للفلسطينيين …..
يوجد في فلسطين نظامان للطرق، للسكن، للتعليم، أنظمة قانونية وادارية مختلفة للسكان اليهود عن تلك لغير اليهود. إن كل قانون تم سنه من نظام الأبارتهيد له قانون مشابه في اسرئيل: قوانين الملكية “Group Areas Act”، قانون منع الزواج المختلط، قانون الحركة والتصاريح، قانون الاعتقال الاداري “Public Safety Act” وطبعاً نظام البانتوستانات المرادف لاتفاقيات أوسلو. ولكن كما يلاحظ الناشط و الأكاديمي ساري مقدسي أن الأبارتهيد الإسرائيلي يتميز وبذكاء بتجنب وضوح ثنائية الأبارتهيد الأم، فعلى صعيد المثال لن ترى في كل فلسطين التاريخية إشارة واحدة تقول “Jews only” لليهود فقط. بمعنى أن العنصرية هنا هي عملية ممارسة وليست لغة .
السؤال الذي أود التعامل معه الآن ، وهو سؤال كثيراً ما قصرت الحركة الوطنية الفلسطينية في محاولة فهمه : هل قطاع غزة شبيه ببانتوستانات ج.أفريقيا العنصرية؟ بمعنى ، هل هو منطقة شبيهة بالمعازل السوداء التي عزل فيها السكان السود في ولكن بدون حقوق سياسية ومدنية؟ الجواب هو نعم ، ولا .
نعم .. لأن سكان القطاع معزولون عن باقي سكان فلسطين التاريخية، ولا يتمتعون بالحد الأدنى من الحقوق السياسية وحتى الحياتية المتوفرة للسكان اليهود بسبب كونهم ولدوا لأمهات لا ينتمين للدين “الصحيح “! وفي هذا السياق لابد من الاشارة لحقيقة يتم تجنبها وبشكل متعمد عند الحديث عن غزة وأساليب الاضطهاد الممارسة ضد سكانه. 80% من أهل القطاع تم تطيرهم عرقيا عام 1948 وهم ممنوعون من العودة للقرى والمدن التي شردوا منها!
لقد تم تأسيس نظام المعازل العرقية لفصل السكان السود في تجسيد عملي “لأرقى” معادلة عنصرية أراد نظام الأبارتهيد تطبيقها لابراز التفوق الأبيض (White supremacy وقد سميت هذه المعازل “بأوطان مستقلة ” ولكن بدون حقوق متساوية ولا حتى قرار سياسي مستقل . وهكذا تم الحديث عن 11″دولة” تعيش بسلام جنبا إلى جنب ! حتى هذه المعادلة العنصرية نحن في فلسطين محرومون منها! لا شك أن إسرائيل قد تعلمت من درس جنوب أفريقيا والأربع بانتوستانات التي أعلن عنها في ج.أ فهي على صعيد المثال لم تعين قادة محليين لقيادة بانتوستانات الضفة ومعسكر الاعتقال الأكبر في غزة أو ما يسمى “حكومة الحكم الإداري الذاتي المحدود” . على العكس من ذلك فقد قامت إسرائيل وبالتنسيق مع الولايات المتحدة بالسماح بانتخابات “حرة” حتى تكسب عملية بناء المعازل Bantustanization” ” شرعية وموافقة دولية و الأهم من ذلك موافقة السكان الأصليين مع العلم أن هذه الانتخابات جرت تحت حراب الاحتلال في معادلة غريبة وفريدة من نوعها، و بمفارقة تاريخية نادرة لتعبر عن مأساة تراجيدية فلسطينية بامتياز، وبيع وهم و سراب ما يسمى “الاستقلال” لجزء من 22% من أرض فلسطين التاريخية. بمعنى آخر أن إسرائيل، وليس كنظام الأبارتهيد, نجحت بشكل ما أن تغري جزء من السكان الأصليين في فلسطين بأن يرضوا بإعلان “الاستقلال” على قطع من الأرض بدون سيادة وعملياً تحويل هذه القطع الى معازل ومعسكرات اعتقال يتم ترويجها و تسويقها للعالم على أنها “الدولة الفلسطينية المستقلة” التي تجسد “المشروع الوطني الفلسطيني المعاصر.”
ولا .. لأن القطاع تحول من بانتوستان ما بين 1993م /2000م إلى معسكر اعتقال كبير شبيه بمعسكري أوشفيتز ووارسو . المقارنة هنا يجب أن تذكرنا بأنه كما قال العديد من الناشطين ال جنوبأفارقة حين زاروا الأراضي المحتلة ، ومن بينهم الأسقف دزمنود توتو،روني كاسرلز و جون دوغرد ،و قيادات النقابات العمالية. ماشاهدوه كان في نظرهم “أسوأ بمراحل مما شهده أهل ج. أقريقيا إبان فترة الحكم اللاانسانية بعد مأسسة الأبارثهيد عام 1948م” . و في هذا السياق بالذات يقول رئيس تحرير “Sunday Times” ال ج.أفريقية: “إن ما أراه أسوأ, أسوأ من أي شيء تحملناه ، مستوى الأبارتهيد ، العنصرية ، والقسوة اللاانسانية تفوق بكثير أسوأ مراحل الابارتهيد… إن نظام الأبارتهيد نظر للسكان السود على أنهم أقل شأناً “Inferior”وأنا لا أعتقد أن الاسرائيليين ينظرون للفلسطينيين كبشر على الاطلاق!”
اذاً الفارق بين النظامين الشقيقين هو كالفارق بين تقليل قيمة الانسان ” inferiority” ونزع إنسانية الإنسان “Dehumanization “وهو الفرق بين الاستغلال “”Exploitation والابادة “Annihilation” كما يقول ساري مقدسي .
في الحالة الجنوبأفريقية قام العالم بالاستجابة لنداء المضطهَد الأفريقي وفرض عقوبات على نظام الأبارثهيد، وسحب استثماراته منه ومن الشركات الدولية التي تعاملت معه، ثم فرض عقوبات عليه. وهذا بالضبط ما يطالب به تقرير “الإسكوا”, أي ضرورة التزام المجتمع الدولي بالتعامل مع نظام الأبارثهيد الصهيوني بنفس الطريقة حتى تقوم إسرائيل بتطبيق القانون الدولي والانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 67, وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي ينص على حق اللاجئ الفلسطيني بالعودة والتعويض، و إلغاء كل القوانين العنصرية التي أقرها الكنيست الإسرائيلي.
وهذا بالضبط ما يطالب به المجتمع المدني الفلسطيني و قواه الحية سعياً للوصول للحد الأدنى من الحقوق الأساسية لشعب الفلسطيني، أي للحرية و العدالة و المساواة.