كسر الجمود : طريقٌ ثالث/ إداورد سعيد

الان، وبعدما تأكد بوضوح أن اتفاق اوسلو هو كما كان فعلاً منذ البداية عملية “سلام” تعاني اختلالاً عميقاً ويتعذر تطبيقها، يحتاج العرب والاسرائيليون وانصارهم المتعددون والمتنوعون الى التفكير بوضوح اكبر بكثير وليس العكس. ويبدو ان بعض النقاط الاولية يطرح نفسه منذ البداية. اصبح “السلام” الآن كلمة مُخادعة لا تتمتع بصدقية، ولا تشكل ضماناً لتجنيب الشعب الفلسطيني المزيد من الاذى والدمار. فكيف يمكن المرء، بعد كل عمليات مصادرة الاراضي والاعتقالات وهدم المنازل واجراءات الحظر واعمال القتل التي جرت من طرف واحد بسبب غطرسة اسرائيل وعنجهيتها في السياق ذاته لـ “عملية السلام”، ان يستمر في استخدام كلمة “السلام” من دون تردد؟ هذا مستحيل.

يقول المؤرخ الروماني تاسيتوس عن الاحتلال الروماني لبريطانيا “انهم ]الجيش الروماني[ احدثوا خراباً، وسمّوه سلاماً”. الشيء ذاته تماماً حدث لنا كشعب، بتعاون واعٍ من السلطة الفلســطينية والــدول العربية مع بضعة استثناءات ذات شــأن واســـرائيل والولايـــات المتـــحدة.

ثانياً، لا جدوى من التظاهر بأنه يمكن ان نحقق تقدماً في معالجة الجمود الحالي، الذي يتعذر كسره في الاطار القائم لاتفاق اوسلو، بالعودة الى فترات الماضي الذهبية. لا يمكن ان نعود الى الايام التي سبقت حرب 1967، وفي الوقت نفسه لا يمكن ان نقبل شعارات الرفض التي تعيدنا عملياً الى العصر الذهبي للاسلام. لا يمكن اعادة عقارب الساعة الى الوراء. فالسبيل الوحيد لرفع الحيف، كما قال اسرائيل شاحاك وعزمي بشارة على السواء، هو ان تخلق مزيداً من العدل، لا أن تخلق اشكالاً جديدة من الاعمال الظالمة الانتقامية، اي بالقول ان “لديهم دولة عبرية، ونحن نريد دولة اسلامية”. من جهة اخرى، لا يقل سخفاً فرض مقاطعة كاملة على كل شيء اسرائيلي كما هو رائج حالياً في اوساط عربية تقدمية مختلفة والتظاهر بأن هذا هو الطريق القومي السليم فعلاً. هناك في أي حال مليون فلسطيني هم مواطنون اسرائيليون: هل سيتعرضون ايضاً للمقاطعة كما كانت الحال خلال الخمسينات؟ وماذا عن الاسرائيليين الذين يدعمون كفاحنا، ولكنهم لا ينتمون الى حركة “السلام الآن” المراوغة او الى “مريتس” او الى حزب العمل الاسرائيلي “العظيم” الذي يتزعمه إيهود باراك الذي يُرجّح انه قتل كمال ناصر وابو أياد؟ هل ينبغي لهؤلاء – فنانين ومثقفين احرار وكتاب وطلبة واكاديميين ومواطنين عاديين – ان يُقاطعوا لأنهم اسرائيليون؟ واضح ان القيام بذلك سيعني التظاهر بأن الانتصار على نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا لم يحدث، وتجاهل كل الانتصارات الكثيرة للعدالة التي تحققت بفضل التعاون السياسي غير العنفي بين اناس يحملون افكاراً متماثلة على جانبي الجبهة المتشابكة لدرجة كبيرة والمتحركة. وكما قلت في مقال نشر اخيراً، لا يمكن ان ننتصر في هذا الصراع عبر التمني بأن يختفي ببساطة كل اليهود، او بأن نتمكن من جعل كل شيء يصبح اسلامياً: نحتاج الى “الولايات” الاخرى، داخل اسرائيل وعلى صـــــعيد عالمي، والى الناس داخلها الذين يؤيــدون كفــــاحنا. ويجـــب ان نجــــتاز حاجز الفصل – الذي كان انشاؤه أحد الاهداف الرئيسية لأوسلو – الذي يديم الفصل العنصري الحالي بين العرب واليهود في فلسطين القديمة. ان نجتاز الحد الفاصل، لكن من دون ان نعززه.

ثالثاً، وقد يكون الاهم: هناك فرق كبير بين السلوك السياسي والسلوك الفكري. فدور المفكر هو ان يقول الحقيقة، بأكبر ما يمكن من الوضوح والمباشرة والصدق. لا يُفترض لأي مفكر ان يقلق في شأن ما اذا كان ما يُقال يُحرج او يرضي او لا يرضي اناساً في السلطة. وقول الحقيقة لأصحاب النفوذ يعني بالاضافة الى ذلك ان القطاع الذي يتوجه اليه المفكر لا يتمثل في حكومة او شركة او مصلحة فردية: لا شيء سوى الحقيقة بلا تزويق. ويعتمد السلوك السياسي بشكل اساسي على اعتبارات تتعلق بالمصلحة: احراز تقدم وظيفي، العمل مع حكومات، الحفاظ على موقع المرء، وغير ذلك. من الواضح اذاً في اعقاب اتفاق اوسلو ان الاستمرار في النهج الذي تروّج له الاطراف الثلاثة الملتزمة بنوده، أي الدول العربية والسلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية، يمثل سلوكاً سياسياً وليس فكرياً. خذ على سبيل المثال الاعلان المشترك الذي صدر عن مصريين واسرائيليين رجال في الاغلب بالنيابة عن “جمعية القاهرة للسلام” وحركة “السلام الآن”. فإذا طرحنا جانباً كل التعابير الطنانة عن “السلام” لن نحصل على تأييد مدوٍ لاتفاق اوسلو فحسب، بل كذلك على عودة الى اتفاقات السادات – بيغن في أواخر السبعينات التي توصف بأنها جريئة وبالغة الاهمية.

حسناً. لكن ما علاقة هذا بالفلسطينيين الذين تجنّبت تلك الوثائق الجريئة والبالغة الاهمية الاشارة الى ارضهم وحقهم في تقرير المصير. بالاضافة الى ذلك، لا تزال مصر واسرائيل في حال سلام. كيف سيكون الامر اذا اجتمع بضعة اسرائيليين وفلسطينيين وأصدروا بيانات مدوية عن السلام بين اسرائيل وسورية تهدف الى “مناشدة” حكومتيهما؟ سيعتبر معظم الناس ذلك ضرباً من الجنون. ما الذي يخوّل طرفين، احدهما يضطهد الفلسطينيين والآخر يدعي لنفسه حق التحدث بالنيابة عنهم، ان يعلنا اهدافاً سلمية في نزاع لا يدور بينهما؟ بالاضافة الى ذلك، تبدو فكرة مناشدة هذه الحكومة الاسرائيلية، وتوقع الحصول على حلول منها، أشبه بمناشدة مصاص الدماء الشهير الكونت دراكيولا ان يتحدث بحماسة عن فضائل النباتية.

باختصار، يقوي هذا النوع من السلوك السياسي سيطرة تلك الجرثومة القاتلة، عملية اوسلو المهلكة رغم انها تسير الى الموت، على مستقبل السلام الحقيقي المناقض للسلام الاميركي – الاسرائيلي المخادع. لكن يتوجب ان اقول ايضاً انه لن يكون موقفاً مسؤولاً على المستوى الفكري، من جهة اخرى، العودة عملياً الى ذلك النوع من المقاطعة الشاملة الذي يلقى الرواج حالياً في بلدان عربية مختلفة. وكما ذكرت سابقاً، فإن هذا النوع من التكتيك لا يمكن ان يوصف بأنه استراتيجية، إلاّ بالقدر الذي يمكن ان يُعتبر إدخال الرأس في الرمل مثل النعامة ضرباً من الاستراتيجية يؤدي الى الارتداد.

ان اسرائىل ليست جنوب افريقيا، او الجزائر، او فيتنام. وسواء شئنا أم أبينا، فإن اليهود ليسوا مستعمرين عاديين. نعم، لقد عانوا المحرقة، ونعم انهم ضحايا مناهضة السامية. لكن كلا، لا يمكن ان يستخدموا هذه الحقائق ليستمروا، او يشرعوا، بتشريد شعب آخر لا يتحمل اي مسؤولية عن اي من هذه الحقائق السابقة.

لقد دأبت على القول طوال عشرين سنة اننا لا نملك أي خيار عسكري، وليس من المحتمل ان نملك مثل هذا الخيار في المستقبل القريب. كما ان اسرائىل لا تملك خياراً عسكرياً فعلياً. فعلى رغم القوة الهائلة للاسرائيليين لم ينجحوا في تحقيق الاعتراف او الامن اللذين يتوقون اليهما. من جهة اخرى، ليس كل الاسرائيليين على الشاكلة ذاتها، ومهما يحدث يجب ان نتعلّم العيش معهم بشكل ما، والأفضل ان يكون ذلك بشكل عادل، بدل ان يكون بشكل جائر.

يتجنب الطريق الثالث اذاً افلاس اوسلو والارتداد الى سياسات المقاطعات الشاملة على السواء. ويجب ان يبدأ انطلاقاً من فكرة المواطنة، وليس القومية، لان فكرة الفصل اوسلو والنزعة القومية الثيوقراطية الاحادية الجانب الانتصارية، إن كانت يهودية او اسلامية، لا تتعامل مع الحقائق التي نواجهها. ويقضي هذا ان يحل مفهوم للمواطنة يضمن لكل فرد حقوق المواطن ذاتها، لا يستند الى العرق او الدين بل على عدالة متكافئة لكل مواطن يكفلها دستور، مكان كل الافكار البالية عن الطريقة التي ستُطهّر بها فلسطين من الاعداء. فالتطهير العرقي هو التطهير العرقي سواء نفّذه الصرب او الصهاينة او “حماس”. ما يسعى عزمي بشارة ويهود اسرائيليون عديدون مثل ايلان بابي الى تعزيزه حالياً هو وضع وحياة سياسيان يكفلان لليهود والفلسطينيين داخل الدولة العـــــبرية امــتلاك الحقوق ذاتها. وليــس هناك اي ســــبب يحــــول دون تطبيق المبدأ نفسه على الاراضي المحتلة حيث يعيش الفلسطينيون واليهود الاسرائيليون جنباً الى جنب، معاً، ولكن مع هيمنة أحد الشعبين، اليهود الاسرائيليون، وحده على الآخر في الوقت الحاضر.

الخيار اذاً هو إما ان يكون هناك نظام فصل عنصري او عدالة ومواطنة. ويجب ان نقرّ بحقائق المحرقة لا كشيك على بياض يستخدمه الاسرائيليون للاساءة الينا، بل كمؤشر الى انسانيتنا، وقدرتنا على فهم التاريخ، ومطلبنا ان يجري الاعتراف على نحو متبادل بمعاناتنا. كما يجب ان نقرّ بأن اسرائيل مجتمع دينامي توجد داخله تيارات كثيرة، وليست كلها تابعة لكتلة ليكود او حزب العمل او تيارات دينية. يجب ان نتعامل مع اولئك الذين يقرون بحقوقنا. ينبغي ان نكون مستعدين كفلسطينيين للذهاب والتحدث الى الفلسطينيين اولاً، ولكن الى الاسرائيليين ايضاً وينبغي ان نطلعهم على حقيقة أوضاعنا، بدل المساومات الغبية من النوع الذي تتعاطاه منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، ويمثل عملياً الفصل العنصري الذي تضمنه اتفاق اوسلو.

القضية الرئيسية هي الحقيقة بذاتها وضرورة التصدي لأي نوع من الفصل العنصري والتمييز العرقي، بغض النظر عن الجهة التي تمارسه. هناك الآن موجة بغيضة متسللة من مناهضة السامية وادعاء السمو الاخلاقي المرائي تتغلغل الى فكرنا وخطابنا السياسي. وأرى بقوة ان هناك شىئاً يجب ان يكون واضحاً: نحن لا نكافح الاعمال الجائرة للصهيونية كي نستبدلها بنزعة قومية دينية او مدنية مثيرة للبغض تقضي بأن يتمتع العرب في فلسطين بمساواة اكثر من الآخرين. يعاني تاريخ العالم العربي الحديث – بكل اخفاقاته السياسية وانتهاكات حقوق الانسان وعجز عسكري مذهل وتضاؤل انتاجه، وحقيقة اننا وحدنا بين كل الشعوب الحديثة تراجعنا على صعيد التطور الديموقراطي والتكنولوجي والعلمي – سلسلة كاملة من الافكار البالية التي فقدت صدقيتها، ومن بينها الفكرة القائلة بأن اليهود لم يعانوا أبداً وأن المحرقة كذبة اختلقها حكماء صهيون التي تلقى رواجاً أكبر مما ينبغي بكثير.

لماذا نتوقع ان يصدّق العالم معاناتنا كعرب اذا كنا: أ لا نستطيع ان نقرّ بمعاناة الآخرين، حتى بمعاناة مضطهدينا، وب لا نستطيع ان نتعامل مع الحقائق التي تتحدى الافكار التبسيطية من النوع الذي يروّجه مفكرون مثاليون لا يريدون ان يروا العلاقة بين المحرقة واسرائيل. دعوني أكرر، مرة اخرى، انه لا يمكن ان اقبل الفكرة القائلة بأن المحرقة تبرر للصهيونية ما فعلته بالفلسطينيين. فأنا اقول العكس تماماً، انه يمكن لنا عبر الاقرار بالمحرقة لما مثلته فعلاً من جنون الإبادة ان نطالب الاسرائيليين واليهود عندئذ بالحق في ربط المحرقة بالأعمال الظالمة التي اقترفها الصهاينة ضد الفلسطينيين، في الربط وانتقاد الربط لما ينطوي عليه من رياء ومنطق اخلاقي فاسد.

لكن دعم مساعي غارودي واصحابه المشككين بالمحرقة بذريعة “حرية الرأي” هي حيلة سخيفة تلحق مزيداً من الإساءة بسمعتنا التي شُوّهت بالفعل في انظار العالم بسبب عجزنا وفشلنا في خوض المعركة كما يجب، وسوء فهمنا العميق للتاريخ وللعالم الذي نعيش فيه. لماذا لا نكافح بقوة اكبر من اجل حرية الرأي في مجتمعاتنا، هذه الحرية التي تكاد تكون معدومة كما يدرك الجميع؟ عندما اشرت الى المحرقة في مقال كتبته هنا في تشرين الثاني نوفمبر الماضي تلقيت اتهامات اكثر غباءً مما كنت اتوقعه اطلاقاً. وبلغ بمفكر شهير ان يتهمني بمحاولة الحصول على شهادة حسن سلوك من اللوبي الصهيوني. اؤيد، بالطبع، حق غارودي في ان يقول ما يشاء وأعارض قانون “غيسو” التعيس الذي حوكم ودين بمقتضاه. لكن اعتقد ايضاً ان ما يقوله مبتذل وغير مسؤول، وعندما نصادق عليه فإن ذلك يضعنا بالضرورة الى جانب جان ماري لوبن وكل العناصر الفاشية اليمينية الرجعية في المجتمع الفرنسي.

كلا، ان معركتنا هي من اجل الديموقراطية والحقوق المتكافئة، من اجل رابطة او دولة علمانية يكون فيها كل الأفراد مواطنون متساوين، ويكون المفهوم الذي يشكل اساس هدفنا هو فكرة المواطنة والانتماء، وليس جوهراً اسطورياً او فكرة تستمد سلطتها من الماضي البعيد، سواء كان هذا الماضي مسيحياً او يهودياً او اسلامياً. وكما قلت، فإن عبقرية الحضارة العربية في ذروتها، في الاندلس مثلاً، كانت تكمن في تعددها الثقافي وتعددها الديني وتعددها الاثني. هذا هو المثل الاعلى الذي ينبغي ان يحفّز جهودنا الان، بعد موت اتفاق اوسلو وموت مواقف الرفض ايضاً. فالحرف يقتل، لكن الروح تمنح الحياة، كما يقول الكتاب المقدس.

في غضون ذلك، ينبغي ان نركّز مقاومتنا على التصدي للاستيطان الاسرائيلي كما وصف في مقال كتبته قبل بضعة اسابيع بتظاهرات جماهيرية غير عنفية تعرقل مصادرة الاراضي، وعلى اقامة مؤسسات مدنية مستقرة وديموقراطية مستشفيات وعيادات، ومدارس وجامعات، تعاني الآن تدهوراً مريعاً، ومشاريع عمل تحسّن بنيتنا التحتية، وعلى مواجهة شاملة لافكار وسياسات الفصل العنصري المتأصلة في الصهيونية. هناك تنبؤات كثيرة عن انفجار وشيك بسبب المأزق الحالي. وحتى اذا تأكدت صحة هذه التوقعات، علينا ان نخطط بشكل بناء لمستقبلنا، لان من المستبعد ان يضمن الارتجال او العنف إقامة المؤسسات الديموقراطية وترسيخها.