سلط الصحفي البريطاني المقيم في الناصرة جوناثان كوك في مقال نشره موقع “ميدل إيست آي” الضوء على تفاعلات التحول المهم بموقف الصهيوني الليبرالي بيتر بينارت، من دعم “الدولة اليهودية” إلى تأييد حل “دولة واحدة” تقوم على “المساواة بين الفلسطينيين والإسرائيليين”.
وتناول كوك في مقالته مكانة بينارت “الصهيوني الليبرالي”، وأحد الداعمين سابقا لفكرة “الدولة اليهودية”، مشيرا إلى أن هذا التحول ينذر بتخلي اليهود الليبراليين عن “الصهيونية”، ما يعني أن “إحدى أرجل الكرسي الذي تتكئ عليه إسرائيل سوف تزول”.
واستعرض كوك حجم ردود الفعل في الأوساط الداعمة لإسرائيل، التي خرجت عقب نشر بينارت المعروف بـ”بابا الصهيونية الليبرالية” مقالتين في ذي نيويورك تايمز ومجلة جويش كرانتس، وأعلن فيهما اعتناقه لفكرة دولة المساواة للجميع.
وقال كوك: “يأتي إعلانه (بينارت) ذلك ليشكل ذروة ما قادته إليه رحلة فكرية وعاطفية طويلة انطلق فيها على مسمع ومرأى من الناس، وهي رحلة رافقه فيها كثير من اليهود الليبراليين في أمريكا”.
وأكد الكاتب على أن خطة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ضم أجزاء من المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية ساهمت في إعلان بينارت لموقفه هذا.
وتاليا نص المقال كاملا:
أثار بيتر بينارت، أحد أهم المعلقين على شؤون إسرائيل والصهيونية، عش دبابير كبير هذا الشهر عندما أقر بأنه تخلى أخيرا عن التزامه القديم بحل الدولتين.
تخلى بينارت، الذي يوصف في بعض الأوسط بأنه “بابا الصهيونية الليبرالية” وفي أوساط أخرى “بفحل الجالية اليهودية في أمريكا”، عن الموقف التقليدي في مقالين، نشر أحدهما في صحيفة ذي نيويورك تايمز والآخر في مجلة جويش كرانتس (تيارات يهودية)، معلنا عن اعتناقه لفكرة المساواة للجميع “إسرائيليين وفلسطينيين”.
خلص بينارت إلى القول: “الحقيقة المرة هي أن المشروع الذي كرسنا له أنفسنا نحن معشر الصهاينة الليبراليين من أمثالي لعقود، دولة للفلسطينيين منفصلة عن دولة لليهود، قد فشل … لقد حان الوقت لأن يتخلى الصهاينة الليبراليون عن هدف الفصل بين اليهود والفلسطينيين وأن يتبنوا هدف المساواة بين اليهود والفلسطينيين”.
كان عنوان مقالته في صحيفة ذي نيويورك تايمز “لم أعد أومن بدولة يهودية”. من الممكن أن تشكل النقطة الأساسية التي سعى بينارت إلى توجيهها، أي أن الالتزام بإسرائيل بات الآن غير منسجم على الإطلاق مع الالتزام بالمساواة لجميع القاطنين في المنطقة، بمثابة ضربة مطرقة تبدد أوهام اليهود الليبراليين في الولايات المتحدة.
رحلة طويلة
يأتي إعلانه ذلك ليشكل ذروة ما قادته إليه رحلة فكرية وعاطفية طويلة انطلق فيها بينارت على مسمع ومرأى من الناس، وهي رحلة رافقه فيها كثير من اليهود الليبراليين في أمريكا.
كان بينارت في الماضي محبوب المؤسسة الليبرالية في واشنطن، والتي كان ديدنها التحريض على الحرب، ولذلك كان من المؤيدين للهجوم غير القانوني على العراق في عام 2003. وبعد ثلاث سنين، ألف كتاباً لم يندم عليه بعنوان “الحرب الطيبة: لماذا الليبراليون، والليبراليون وحدهم، بإمكانهم كسب الحرب ضد الإرهاب وجعل أمريكا عظيمة تارة أخرى”.
لا توجد مطبوعة من الوزن الثقيل في الولايات المتحدة لم تستضفه وتتبنى أفكاره. بل إن مجلة فورين بوليس صنفته في عام 2012 ضمن أهم مئة مفكر على مستوى العالم.
إلا أن افتتانه بإسرائيل والصهيونية ما فتئ يتهاوى منذ سنين. وقبل عقد من الزمن نشر مقالا مهما بين فيه كيف أن شباب اليهود الأمريكيين يشعرون بشكل متزايد بالإقصاء من قبل المنظمات القيادية الرئيسية في مجتمعهم، والتي انتقدها لتعبدها في محراب إسرائيل حتى بينما تتجه الحكومات الإسرائيلية نحو اليمين. وما لبث أن طور فكرته فيما بعد لتصدر في كتاب بعنوان “أزمة الصهيونية”.
ما لبثت التوترات التي كان يصفها ويكتب عنها أن انفجرت على شكل مواجهة بدنية في عام 2018 عندما اعتقل لدى وصوله مطار إسرائيل الرئيسي، وكاد أن يمنع من الدخول بسبب آرائه السياسية.
لم يكتف بينارت بالكتابة بشكل لاذع عن الاحتلال، والتي تعتبر انعطافة مريحة بالنسبة لمعظم الصهاينة الليبراليين، ولكنه وجه انتباهه بشكل متزايد نحو سلوك إسرائيل تجاه الأقلية الفلسطينية الضخمة لديها، والتي تشكل خمس تعداد السكان تقريبا.
كان الاعتراف من قبله بالعنصرية البنيوية التي تمارس تجاه 1.8 مليون مواطن فلسطيني، وهي مجموعة يتم في العادة اختزالها بوصف “العرب الإسرائيليون”، علامة بينة على أنه بدأ يلج إلى داخل دروب الصهيونية المظلمة، وهي مساحات طالما نأى معظم زملائه بأنفسهم عنها.
خيبة أمل وانعدام ثقة
بعض من كانوا يحسبون ضمن حلفائه الطبيعيين، تعاملوا مع مقالتي بينارت بنوع من التردد.
ما من شك في أن بعض الفلسطينيين يجدون من الأسباب ما يكفي لأن يشككوا في استمرار بينارت بإطلاق صفة “الصهيوني” على ذاته، حتى لو كان يقصد بذلك أنه صهيوني ثقافة لا سياسة. كما أنهم يمتعضون من استمرار العقلية الاستعمارية الغربية التي بدأت متأخرة جدا في الاهتمام بالمساواة مع الفلسطينيين فقط لأن بعض الشخصيات البارزة بين اليهود الليبراليين تبنت تلك القضية.
كما أن لغة بينارت تشكل على كثير من الفلسطينيين. ليس على الأقل لأنه يصور المسألة على أنها بين الفلسطينيين واليهود، بما يعطي الانطباع بأن اليهود في كل مكان ما زال لديهم ادعاء استعماري حول ملكية أراضي فلسطين التاريخية، وليس فقط أولئك الذين يعيشون هناك اليوم كإسرائيليين.
كما يشعر كثير من المعادين للصهيونية بخيبة أمل لأن بينارت لم يمض قدما ويتبنى بشكل صريح الدولة الديمقراطية الواحدة من النوع الذي يطالب به في المنطقة عدد صغير، وإن كان يتنامى يوما بعد يوم، من الإسرائيليين والفلسطينيين.
اختبار صارم
ولكن أهمية تدخل بينارت تكمن في مكان آخر. فالأمريكي ليس أول شخصية يهودية بارزة تدير ظهرها لفكرة الدولة اليهودية. من الملاحظ أن المؤرخ الراحل طوني جُودت فعل نفس الشيء، في مواجهة ضجة كبيرة، في مقال كتبه عام 2003 نشر له في ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس، نعت فيه إسرائيل بأنها “مفارقة تاريخية”.
إلا أن جُودت ارتبط بشكل رئيسي بمساهماته في فهم التاريخ الأوروبي، وليس الصهيونية أو إسرائيل. أضف إلى ذلك أن مقاله نشر في لحظة تاريخية مختلفة جداً، كان الإسرائيليون واليهود في الخارج حينها أكثر تمترسا بالصهيونية، في وقت باتت فيه اتفاقيات أوسلو غير ذات قيمة في أوج الانتفاضة الفلسطينية.
أما بينارت فجاءت مقالاته في وقت مُشكل بالنسبة لجمهوره الرئيسي، حيث يتم بشدة اختبار أهم مبدأ من مبادئ الصهيونية الليبرالية، ومفاده أن الدولة اليهودية ضرورية بل قد تكون مقدسة.
والذي حفزه على كتابة المقالين هو التهديد الصادر عن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمساندة من البيت الأبيض في عهد ترامب بضم مساحات شاسعة من أراضي الضفة الغربية.
ذريعة ضئيلة ضائعة
تعتمد أهمية موقف نتنياهو إزاء الضم، كما لاحظ محامي حقوق الإنسان مايكل سفارد، ليس ببساطة على ما إذا كان الضم سيتحقق على الأرض الآن أم في وقت لاحق، وإنما لأن الإعلان قرار لا رجعة عنه.
فنتنياهو وتيار اليمين الذين يتحكمون الآن بإسرائيل دون مزاحمة من أحد صرحوا بكل وضوح أنهم لا يعتبرون الاحتلال ترتيباً مؤقتاً سوف يتم حله في نهاية المطاف عبر محادثات السلام.
وسواء سمحت الولايات المتحدة بالضم أم لا، فمجرد النية بتنفيذه تصم كل ما تقوم به إسرائيل في المناطق المحتلة، ويثبت دون أدنى شك – حتى لليهود اللبراليين الذين ما فتئوا يعيشون في حالة من الإنكار العميق – أن هدف إسرائيل هو الاستيلاء بشكل نهائي ودائم عل المناطق المحتلة.
وهذا بدوره يعني أنه سيكون لدى إسرائيل مقاربتين اثنتين فقط للتعامل مع السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في تلك المناطق طالما أنها تحرمهم المساواة. فإما أن تقوم بعمليات تطهير عرقي لطردهم أو أن تحكمهم من خلال منظومة فصل عنصري (أبارتايد) رسمية وصريحة. قد لا يشكل ذلك فرقا ملموسا كبيرا على الأرض، ولكن البون شاسع من الناحية القانونية.
مهما كان الاحتلال قبيحا فإنه لا يعتبر انتهاكا للقانون الدولي، رغم أن الإجراءات المرتبطة به، مثل بناء المستوطنات، قد تكون كذلك. ولقد سمح ذلك لكثير من اليهود الليبراليين، مثل بينارت، بغطاء بسيط من الراحة ما لبثوا يعضون عليه بالنواجذ لعقود.
وعندما كان أحد يتحداهم بشأن سلوك إسرائيل، كان بإمكانهم دائما أن يزعموا بأن الاحتلال سينتهي يوما ما، وأن محادثات السلام قريبة، وأن التقسيم ممكن فقط لو أن الفلسطينيين كانوا على استعداد لتقديم القليل من التنازلات الإضافية.
ولكن نتنياهو من خلال خطته للضم انتزع من أيديهم غطاء الراحة ذلك ومزقه شر ممزق، فالتطهير العرقي والأبارتايد كلاهما جرائم ضد الإنسانية، بدون لو وأخواتها وبدون لكن وأخواتها. وكما يشير سفارد: “بمجرد ما أن تبدأ إسرائيل رسمياً في تنفيذ الضم، أي إدامة حكمها للمناطق بالقوة، فستكون قد فقدت هذه الذريعة الضئيلة”.
دولة الأبارتايد
يبدي سفارد ملاحظة قانونية إضافية بالغة الأهمية في تقرير كُتب لصالح منظمة حقوق الإنسان ييش دين. فيما لو اختارت إسرائيل التأسيس لنظام أبارتايد (فصل عنصري) في أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، سواء بشكل رسمي أو من خلال الضم القانوني الزاحف، كما تفعل الآن، فإن ذلك النظام لن ينتهي عند حدود الضفة الغربية. بل سيعني ذلك أن “النظام الإسرائيلي بكليته هو نظام أبارتايد، أي أن إسرائيل دولة أبارتايد”.
بالطبع، لابد أن يكون المرء أعمى حتى لا يدرك أن ذلك هو ما كانت الصهيونية السياسية تسير نحوه باستمرار، وبشكل أكثر بعد حرب 1967، عندما تبين من الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل أنها لم تكن تنوي إعادة المناطق الفلسطينية التي استولت عليها.
إلا أن الحالة الصهيونية الليبرالية كانت بالضبط حالة من العمى المقصود والمتعمد. فهي تغمض عينيها بإحكام ولا ترى شرا، ولا حتى عندما كانت إسرائيل تمتهن حياة الفلسطينيين هناك لأكثر من نصف قرن. وعندما ينظر إلى الخلف، فإن بينارت يتعرف على الخداع الذي ارتكبه بحق نفسه. فقد كتب في ذي نيويورك تايمز يقول: “عمليا، لقد قامت إسرائيل بضم الضفة الغربية قبل وقت طويل”.
في مقالتيه الاثنتين، يحرم بينارت اليهود الليبراليين من السبيل الوحيد المتاح أمامهم لترشيد اضطهاد الفلسطينيين، وذلك حين يقول إن أولئك الذين يعقدون العزم على دعم دولة يهودية، مهما فعلت، فإنهم بذلك يسقطون على الفلسطينيين مخاوفهم الذاتية التي بقيت دون حل ما بعد المحرقة.
فحسبما يراه بينارت، تم في التصور الصهيوني إعادة اختراع الفلسطينيين كورثة للنازيين، ونتيجة لذلك فإن معظم اليهود يجري التلاعب بهم حتى يعتبروا الاستعمار الاستيطاني الذي تمارسه إسرائيل معادلة صفرية، معركة حياة أو موت، وبهذه الطريقة يتمكنون من التماس الأعذار لإساءة إسرائيل الأبدية للفلسطينيين.
أو كما يعبر عن ذلك بينارت: “من خلال شعوذة تاريخية أحالت الفلسطينيين إلى نازيين، بات الخوف من الإبادة يحدد ما الذي يعنيه أن يكون المرء يهوديا أصيلا”، ويضيف إن “الجرح اليهودي” وليس السلوك الفلسطيني هو الذي انتهى إلى “تصوير الفلسطينيين على أنهم قهريا كارهون لليهود.”
ملزمون بالاختيار
أجبر الضم بينارت على مواجهة ذلك الجرح وتجاوزه والمضي قدما. ولعله من غير المستغرب أن معظم أنصار إسرائيل يترددون في انتهاج نفس السبيل والتخلي عن أوهامهم التي تجلب لهم الراحة. البعض منهم يتقيأون نوبات غضب والبعض الآخر يعتزلون في الزاوية عابسين.
ما كان من اليمين الصهيوني ومن التيار الصهيوني الرئيسي إلا أن نعت بينارت بالخيانة، وبأنه يهودي كاره للذات، وبأنه متواطئ مع الإرهاب الفلسطيني. وقال عنه دافيد واينبيرغ من معهد القدس للاستراتيجية والأمن: “إنه فرصة سيستغلها أعداء إسرائيل. سوف يفرز السموم”.
أما دان شابيرو، السفير الأمريكي السابق إلى إسرائيل، فوصف ما يدعو إليه بينارت من مساواة بأنه “كارثة تتشكل” بينما اتهم داني دايان، القنصل الإسرائيلي العام في نيويورك بينارت بأنه يرغب في رؤية إسرائيل “تسقط ميتة”.
ولم تكن المؤسسة الصهيونية الليبرالية أقل امتعاضا. فهذا أهارون دافيد ميلر، المبعوث الأمريكي السابق إلى الشرق الأوسط، يحذر من أن وصفة بينارت ما هي سوى “وهم مربوط بخيال مغلف باستحالة”.
وحتى صديق بينارت، جيريمي بن عامي، رئيس مجموعة الضغط لصالح حل الدولتين في فصيل جيه ستريت، أقدم على سحب البقايا المهترئة من غطاء الراحة قائلا إن محادثات السلام لابد لها في نهاية المطاف من أن تنبعث من جديد. وفي انعطاف صهيوني معتاد، أضاف بن عامي إن إسرائيل لا تختلف في شيء عن الولايات المتحدة في كونها “غير مثالية”.
ولكن لفهم كيف يمكن للمنطق الصهيوني الليبرالي أن ينهار سريعا، لعل من المفيد التأمل في النقد الذي وجه لمقالتي بينارت من قبل الصهيوني اللبرالي آنشيل بفيفر في صحيفة هآريتس الإسرائيلية.
انهيار الدعم
رغبة منه في تجنب منطق بينارت يلجأ بفيفر إلى حجتين غير مقنعتين على الإطلاق. يزعم أولاً أن حل الدولة الواحدة، أياً كان شكلها، مستحيل لأنه لا يتمتع بدعم لا بين الفلسطينيين ولا بين الإسرائيليين. ويقول إن بينارت في حالة من الخيلاء اكتسبها من اليهود والفلسطينيين الذين يقيمون في الولايات المتحدة.
دعونا نغض الطرف عن خطأ بفيفر الواضح في تجاهل حقيقة أن الدولة الواحدة باتت حقيقة قائمة على الأرض، إسرائيل الكبرى التي يعيش فيها الفلسطينيون منذ عقود تحت نظام شرس من الفصل العنصري المصاحب بتطهير عرقي زاحف. رغم ذلك فإن مزاعمه حول الموقف الحالي للرأي العام الإسرائيلي أو الرأي العام الفلسطيني مضللة تماما، ومضلل كذلك افتراضه المتعلق بكيفية تأثر الفرص الإقليمية بسبب هجوم بينارت على الصهيونية الليبرالية.
لم تفتأ آراء الفلسطينيين في المناطق المحتلة (ويلاحظ هنا أن بفيفر يتجاهل بالطبع آراء اللاجئين) تمر بتحول راديكالي وسريع. لقد انهار تأييد حل الدولتين، وليس ذلك مستغربا إذا ما أخذنا بالاعتبار السياق السياسي الحالي.
توجد مؤشرات على تفشي حالة من السخط بين الفلسطينيين وانعكاس لحالة التعنت في أوساط اليهود الإسرائيليين. ففي استطلاع أخير للرأي، طالب معظم الفلسطينيين الذين استطلعت آراؤهم بالعودة إلى فلسطين التاريخية. ما يمكن استنباطه من هذه النتيجة قد لا يتجاوز كثيرا تلك النزعة الإنسانية للتحلي بالشجاعة عندما يواجه المرء بحالة من التنمر الشديد.
والحقيقة أن الفلسطينيين يدركون بشكل متزايد أنهم إذا ما رغبوا في إنهاء الاحتلال والفصل العنصري فإنهم بحاجة إلى إسقاط قادتهم المتواطئين في السلطة الفلسطينية، والذين يقومون فعليا بدور مقاول الأمن المحلي لدى إسرائيل. ما سيحدد مصير حل الدولتين هو الانتفاض ضد السلطة الفلسطينية وليس استطلاعات الرأي. ولكن ما الذي من شأنه أن يحفز الفلسطينيين على المجازفة بالدخول في مواجهة كبرى مع زعمائهم؟
إن إدراك الفلسطينيين لكيفية تلقي الناس في الخارج للتحول في النضال من أجل الدولة إلى نضال من أجل الحقوق المتساوية في دولة واحدة سيكون له نصيب، مهما كان صغيرا، في لعب ذلك الدور. فالرأي اليهودي الليبرالي في الولايات المتحدة سيكون له دور بالغ الأهمية في تغيير تلك الانطباعات، وها هو بينارت قد وضع نفسه في القلب من ذلك النقاش.
رحلة باتجاه “نحر الذات”
في هذه الأثناء يؤيد معظم اليهود الإسرائيليين إما إسرائيل الكبرى أو حل الدولتين الذي يفرز دولة فلسطينية يحرم داخلها الفلسطينيون من أي معنى للسيادة. ويفعل اليهود الإسرائيليون ذلك لسبب وجيه، لأن أيا من الخيارين من شأنه أن يديم الأمر الواقع المتمثل في الدولة الواحدة التي سيتمكنون داخلها من الازدهار على حساب الفلسطينيين الذين سيتكبدون ثمنا باهظا لقاء ذلك. سوف يعود حل الدولتين الزائف على يهود إسرائيل بامتيازات شبيهة بتلك التي كان البيض في جنوب أفريقيا يجنونها من نظام البانتوستانات.
ولكن سوف تتغير نظرة اليهود الإسرائيليين، كما حصل في جنوب أفريقيا، عندما يعانون من بيئة دولية قاسية، وسيتوجب حينها إعادة النظر في حسبة التكاليف مقابل المنافع.
والموضوع بهذا الشكل لا يتعلق بما يفكر به اليهود الإسرائيليون اليوم، وإنما بما سيطالب به في نهاية المطاف من يكفلون إسرائيل، وبشكل رئيسي الولايات المتحدة. ولهذا السبب لا يمكن إغفال تأثير بينارت على تفكير اليهود الليبراليين في الولايات المتحدة، فعلى المدى البعيد، ما يصرون عليه هو الذي قد يكون عليه التعويل.
ولهذا السبب فإن أشد الناس انتقادا لبينارت عندما هاجموا مقالتيه كانوا يحذرون من خط السير الحالي.
فهذا محرر صحيفة جويش نيوز سينديكيت جوناثان توبين يقول عن آراء بينارت إنها “مؤشر على وجود أزمة ثقة في أوساط يهود أمريكا”. ووصف واينبيرغ المقالتين بأنهما “مخيفتين”، لأنهما يرسمان لليهود الليبراليين “خط سير فكري باتجاه معاداة الصهيونية ونحر الذات”.
يدرك كلاهما أنه فيما لو تخلى اليهود الليبراليون عن الصهيونية فإن إحدى أرجل الكرسي الذي تتكئ عليه إسرائيل سوف تزول.
السخرية من طوباويته
والمشكلة الأخرى التي يسلط بفيفر الضوء عليها من حيث لا يحتسب فيما يتعلق بالصهيونية الليبرالية مشمولة في رفضه الساخر لزعم بينارت بأن تبرير “الوطن اليهودي” يحتاج لأن يكون مؤسسا على الأخلاق.
يسخر بفيفر من ذلك باعتباره نوعا من الطوباوية، ولذلك فهو يؤكد بدلاً من ذلك على أن وجود إسرائيل طالما اعتمد على ما يطلق عليه بشكل ضبابي مصطلح “البراغماتية”. ما يقصده بذلك، إذا ما نزعنا التجميل اللغوي عما قاله، هو أن إسرائيل كانت باستمرار تنهج سياسة “إذا ملكت القوة فقد ملكت الحق”.
إلا أن اقتراح بفيفر بأن إسرائيل لا تحتاج كذلك إلى صياغة سردية أخلاقية لتبرير أعمالها، حتى لو كانت تلك السردية مبتورة تماماً عن الواقع، أمر لا يصدق.
فإسرائيل لم تعتمد فقط على قوتها الذاتية، بل احتاجت إلى دعم الدول الغربية لمساعدتها دبلوماسيا وماليا وعسكريا، ولطالما اعتمد دعمهم المتحمس على الانطباعات التي تشكلت لدى الجماهير المحلية حول إسرائيل كمشروع أخلاقي.
تدرك إسرائيل ذلك جيداً، فلطالما قدمت نفسها على أنها “نور يشع على العالم”، ودولة “تحيي” الأرض القاحلة، ودولة لديها “الجيش الأكثر التزاما بالأخلاق في العالم”. كل هذه ادعاءات أخلاقية يقصد منها ضمان تأييد الغرب ودعمه.
لقد أثبت بينارت أن الخطاب الأخلاقي حول إسرائيل قضية خاسرة، ولهذا السبب فإن حلفاء إسرائيل الرئيسيين الآن عبارة عن دول يقودها معادون للسامية سرا أو علانية، إنهم حكام معادون للسامية يتفاخرون بأنظمتهم السلطوية.
ما من شك في أن بينارت سابق لمعظم اليهود الليبراليين في الولايات المتحدة من حيث رفضه لإسرائيل كدولة يهودية، ولكن سيكون من الحماقة تصور أنه لا يوجد كثيرون آخرون ممن يفكرون الآن بالسير على خطاه.