الشباب الفلسطيني وحالة الاغتراب

عوض عبد الفتاح

أظهر استطلاع جديد للرأي أجرته مؤسسة وطنية فلسطينية مستقلة مدى اغتراب الشباب الفلسطيني، والهوّة العميقة والمستمرة في الاتّساع بينه وبين القيادة الرسمية الفلسطينية، وكذلك قيادات الفصائل والأحزاب والحركات السياسية.

وكذلك، أعادت نتائج هذا الاستطلاع إظهار (وإعادة التأكيد على) الفرق الشاسع في الأفكار والأولويات والنظرة للمستقبل، ولواقع الصراع ضد نظام الاستعمار الاستيطاني في بلادنا.

ليس استطلاع مؤسسة “بديل” (مركزها في مدينة بيت لحم) التي تعنى بحق العودة، الاستطلاع الأوّل الذي تُجريه مؤسسات فلسطينية في السنوات الأخيرة عن واقع وتطلّعات الشباب، ولكنه ربما الأول الذي يجرى حول نوع الحلّ الذي يعتقدون أنه الأنسب، والذي يوفّر التحرّر والعدالة والأمن لعموم الشعب الفلسطيني. وشمل البحث عينات من كل فلسطين التاريخية واللاجئين والشتات في دول الغرب، وعرضت نتائجه في مؤتمر صحافي في مدينة رام الله، يوم الثلاثاء الماضي.

لست بصدد عرض قراءة مهنية للاستطلاع، فهذا ليس من اختصاصي. ولكنّني ألخص بكلمات قليلة أهم ثلاث نقاط أو نتائج عكست الرأي السائد بين الشباب، وتحديدًا تلك الفئة الأكثر نشاطًا وثقافةً، وعلمًا. وهي:

الأولى: 93٪؜ يرون أن اتفاق أوسلو فشل، وبالتالي يحملون القيادة المسؤولية الحالية عن ذلك، وعن استمرار العواقب والإفرازات الكارثية لهذا الاتفاق وعن العجز والفشل عن مواجهة المشروع الاستعماري الاستيطاني؛

الثانية: أكثر من 72٪؜ يرفضون حل الدولتين، ويؤيدون حل الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية على أنقاض المشروع الصهيوني الإحلالي والعنصري، إمّا على شكل دولة ديمقراطية مساواتية يعيش فيها الجميع (بنسبة 48٪؜) أو تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، دون تحديد الدولة، (بنسبة 24٪؜)؛

الثالثة: وتتعلق بنوع الدولة الذين يطمحون للعيش فيها. إذْ يتطلع 74٪؜ من المستطلعين إلى العيش في دولة ديمقراطية تلتزم التعددية الحزبية، وتداول السلطة بصورة سلمية، وتقوم على المواطنة المتساوية دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس. و71٪؜ يريدون دولة تلتزم بسياسات الرفاه الاجتماعي، تضمن الحد الأدنى من الحقوق في ما يتعلق بالمعيشة، والسكن والصحة والتعليم. وأعتقد أن هذا الوعي بأهمية مضمون الدولة، يعود إلى تجربة الثورات العربية المغدورة التي رفعت منسوب المعرفة السياسية وبأهمية الدولة الدمقراطية والعدالة الاجتماعية. وكذلك، وبنفس القدر، يعود إلى تجربة نظام أوسلو وما أفرزه من منظومة تابعة وفاسدة وعاجزة وقمعية، وحالة الانقسام المستمر رغمًا عن رغبة وإرادة الشعب.

ما وراء هذا الاهتمام المتزايد بالشباب؟

تكثّفت في السنوات الأخيرة دراسات حول واقع وآراء الجيل الفلسطيني الشاب، من قبل مؤسسات فلسطينية بحثية مستقلة، وتركّز على دوره السياسي ومساهمته في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني. ولا نرى هذه الدراسات الكثيفة حول دور الشباب، لا في المستعمرة الصهيونية ولا في الدول الغربية. ويمكن تفسير ذلك، في حقيقة أن القيادات الفلسطينية التي لا تزال تحتكر القرار هرمة، ولم تتغير منذ عقود، وهي نفسها التي وضعت الخيارات السياسية البائسة، خاصة منذ أوسلو، والتي نكتوي بضررها البالغ حتى اليوم.

في الدول الحديثة، وبفضل العملية الديمقراطية التي تجدد القيادات كل أربع أو خمس سنين، يصعد الشباب بصورة طبيعية إلى سدة الحكم عبر صندوق الانتخاب. بل ما يلفت النظر ذلك الفارق بين كبار السن من القادة الفلسطينيين وبين قادة المستعمرة، الذين مهما تقدّموا في السن يواصلون الاحتفاظ بعنفوانهم، وحيويتهم، في الخطاب وفي الأداء الفعلي، ويتجلى ذلك في منسوب عدواينتهم ضد الشعب الفلسطيني، وعدم تراجعهم عن أطماعهم. بل على العكس يمضون في التوسع الجغرافي، وفي تعزيز تمسكهم بأيدلوجيتهم الاستعمارية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أرئيل شارون، الذي بدأ منصبه رئيسًا لحكومة إسرائيل وهو في السبعينيّات من العمر، ومارس سلوكًا عدوانيًا حتى اللحظة الأخيرة، وكذلك نتنياهو، ابن السبعين، لا يزال بنفس الروح القتالية العدوانية.

في الحقيقة، لا يجوز لصق صفتيّ الترهّل والجمود على قادة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وتحديدا التيار الإسلامي. فقد أظهر هؤلاء عنفوانًا وحيوية وشجاعة في صد الحروب العدوانية الصهيونية المتكررة، ومن خلال الصمود الأسطوري في شريط جغرافي صغير محاصر بصورة وحشية. وكذلك قامت، وبشكل خاص حركة “حماس”، بعملية تجديد لقياداتهم، من خلال عملية منافسة انتخابية داخلية حقيقية. ولكن مشكلة القيادة السياسية للمقاومة الإسلامية الفلسطينية هو إخفاقها وقصورها في تقديم بديل وطني جذاب، أو مشروع وطني تحرّري وديمقراطي لعموم الشعب الفلسطيني. والدليل على ذلك أنّها تعيش الآن في مأزق حقيقي، يدفعها لارتكاب أخطاء كبيرة تضيف عقبات أمام ولادة مشروع تحرري شامل، بحيث باتت تجربتها السياسية التراجعية، تشبه تجربة حركة “فتح” المنهارة. هذا إضافة إلى عدم استعدادها للسماح بحراكات شبابية واسعة مستقلة، وظهر ذلك في عملية القمع التي مارسها حكمهم في غزة في الأشهر الأولى من الثورات العربية ضد حراكات الشباب في مدينة غزة، أسوةً بما مارسته سلطة التنسيق الأمني ضد الشباب في مدينة رام الله في ذلك الوقت، وعمليات الاحتواء اللاحقة. وأيضًا الهيمنة التي مارستها على مسيرات العودة التي انطلقت بفكرة من الشباب، عام 2018.

لم يظهر، حتى الآن، أي اكتراث من قبل القيادات الفلسطينية الرسمية والفصائلية، ولا من قيادات الأحزاب والحركات السياسية داخل الخط الأخضر. فرغم دعوة ممثلين عن جميع هذه القيادات للحضور، كما أكد مدير مركز “بديل”، الأستاذ نضال العزّة، لم يحضر أحد منهم. وهذا يؤكد على حالة التباعد القائمة بين القيادات والشباب والشعب، ويفسر حالة الاغتراب التي يعيشها الجيل الشاب عن قيادات الشعب، التي باتت شرعيتها مهتزة بدرجة خطيرة.

وفي حين تجمّدت قيادات أوسلو في مواجهة تغول المشروع الاستيطاني والتهويدي الصهيوني، أظهرت الهبات الشبابية والشعبية على مدار السنوات العشر الأخيرة، المتفرّقة، والتي تحولت إلى أشبه بزلزال انتفاضي اجتاح كل فلسطين في شهر أيار/مايو الماضي، وكذلك المبادرات الأدبية والفنية والأكاديمية، التي تشتغل على استعادة الوعي بفلسطين التاريخية، وتتخيل وطنًا حرًا، وإنسانًا حرًا. كل ذلك أظهر أصالة شعبنا، وعنفوان الشباب، وإصرارهم على النهوض والمقاومة، في سبيل الحياة الحرّة الكريمة.

وفي الواقع، فإن هذا حالة هذه القيادات المترهلة، هي التحدي الأكبر أمام القيادات الجديدة الناشئة، التي تصارع من أجل شق طريق جدي، نحو فجر الحرية.