عوض عبد الفتاح
على مدار عقود، سعت إسرائيل بصورة مرضية، وبدون كلل، إلى كيّ وعينا، وإذا بها تصاب بكيّ في عمق وعيها، قد يرافقها طويلا دون القدرة على الشفاء منه، إلى أن تتخلص من بنيتها الإبادية. في هذه المعركة التي انطلقت شرارتها من مدينة القدس، وأهل القدس، ظنت أنها في مواجهة جسدٍ بدا لها مهلهلا وضعيفا، تخلى عنه الكثيرون، وباعوا أنفسهم، فإذا به ينتفض ململماً جراحه، وأعضاءه كمارد لا يموت، يستعيد وعيه وفعله. هي لن تستسلم بسهولة، وستظل تكابر، وتضرب أينما تجد ضعفا في جسد أمتنا وبنيتنا. تاريخيا، لا نعرف مستعمرا سقط طواعية، إلا تحت ضربات المقهور والمسلوب حريته.
أول شرط لتغيير ميزان القوى في معركة المقهور ضد قاهره، هو امتلاك الوعي، الوعي بالقهر ووعي الجماعة لذاتها. فوجود القهر وحده غير كافٍ لحدوث ثورة. تلك مقولة نظرية معروفة.
وتواجه النخبة الثورية الطليعية عادة، في بداية طريقها، مهمة توحيد الشعب الذي لا يتم إلاّ من خلق وتعميق الوعي لدى شعبها، بضرورة الانخراط بالفعل الثوري. بطبيعة الحال كانت هذه مهمة النخبة الفلسطينية الطليعية الناشئة بعد النكبة، والتشتت، وتحطم الحركة الوطنية. وأخذت على عاتقها مهمة ترميم الوعي وتوحيد الشعب، وتأطيره في حركة وطنية تحررية حديثة، في المنافي. ونجحت في إفشال مؤامرة تغييب الشعب الفلسطيني، عن المشهد، ومن التاريخ، وأعادت إنتاجه وفاعليته كشعب له قضية، قضية عودة وتحرر من المستعمر الجديد. تجنَّدَ أيضا في معركة إعادة البناء التحرري، الأدب والشعر والإعلام والفن. وتطورت ثقافة مقاومة، ومعانٍ وقيم إنسانية رفيعة، أهمها التكاتف الاجتماعي والتضامن الوطني، ومحاربة الظلم وتحقيق حرية وكرامة الإنسان الفلسطيني. بل تجاوز وعي الفلسطيني حدود الجغرافيا الفلسطينية، إلى الجغرافية العربية وكتلته البشرية الضخمة، بل إلى فضاء التحرر الإنساني العالمي، من خلال التواصل والتشابك العضوي مع التشكيلات الأممية، التحررية، فباتت قضية فلسطين، رمزا للنضال من أجل الحرية والعدالة على مستوى المعمورة.
في مواجهة هذا الصعود الصاروخي للحركة الوطنية الفلسطينية، في الستينات والسبعينات خاصة، أطلق العدو حرباً عدوانية شرسة، بأشكالها الخشنة والناعمة، في محاولة لوأد النهضة الفلسطينية، والنهضة القومية العربية التي ظهرت في الخمسينات والستينات.
لم تطل هذه المرحلة المشرقة، لأكثر من عقدين، فقد تضافرت مجموعة من العوامل والضغوط الدولية، والعربية، والداخلية، لتُدخل الحركة الوطنية الفلسطينية في مأزق خطير، دفعت قيادتها المتنفذة إلى تقديم تنازلات فادحة، تتوجت في اتفاق أوسلو الاستسلامي.
و الخطر الأكثر فداحة، الناجم عن اتفاق أسلو، هو ذلك الذي أصاب الوعي الجمعي، والتحرري، الذي تأسس عبر عقود من المقاومة والنضال والتضحيات، والدماء.
ونرى أهمية في التذكير بمكونات هذا الوعي الأصيل؛
أولا؛ قضية فلسطين هي قضية تحرر وطني، وليست نزاعاً بين طرفين متساويين في الحق.
ثانياً؛ إسرائيل هي كيان استعماري استيطاني ونظام فصل عنصري.
ثالثا؛ الحركة الصهيونية، هي حركة أوروبية استعمارية وعنصرية، وليست لها أي علاقة لا تاريخية ولا دينية في فلسطين. وهناك فرق بين اليهودية والصهيونية.
رابعاً؛ فلسطين وحدة جغرافية واحدة، وقطر من أقطار الوطن العربي، وشعب فلسطين هو وحدة ديمغرافية واحدة، وجزء من الشعوب العربية، ومعركة التحرر واحدة.
خامسا؛ حق وواجب الشعب الفلسطيني في المقاومة والنضال من أجل تحرير وطنه وتحقيق العودة.
هذه هي المكونات والقيم التي نشأت عليها قوافل المناضلين، والشرائح الاجتماعية المختلفة. وفي كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني.
قام أوسلو على تدمير هذه المكونات والقيم والمبادئ، واستبدلها بقاموس سياسي وأيدلوجي هجين، بقيادة فئة متنفذة ما لبثت أن ارتدت بالكامل عن ماضي الحركة الوطنية، وتحولت إلى طبقة واسعة، سياسية واقتصادية، تستمد شرعيتها في الأساس وبقائها من نظام الاستعمار.
تحت قيادة هذه الطبقة، تكرست وتعمقت حالة التشظي والانحلال السياسي، وبات لكل تجمع فلسطيني همومه وأجندته الخاصة بدون سقف سياسي وطني جامع، وتكرس المشروع الاستيطاني الإحلالي في كل فلسطين.
ولكن وبالرغم من هيمنة هذه الطبقة الفاسدة، فقد شهدت الساحة الفلسطينية الشعبية، حراكات مختلفة، فكرية وشعبية، متفرقة، مكاناً وزماناً، ومتفاوتة في نطاقها وحجمها، تتصدى للمستعمر، وكذلك لنهج هذه الطبقة التفريطي. ومع مرور الزمن تراكمت هذه الحراكات، وظهرت في جميع تجمعات الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، واتجهت بسرعة نحو تنسيق وتلاقٍ كحركة واحدة غير مؤطرة، ولكنها تعبر عن شعب بدا وكأنه يستعيد فكرة فلسطين الواحدة، متحديا ثقافة التجزئة والهزيمة. ويمكن وصف هذا التطور كعملية إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني من تحت ( bottom-up)، ومن خارج الكيانات الرسمية الفاقدة للشرعية، الثورية والانتخابية. وفي القلب من هذه العملية يظهر دور الشباب، وخاصة طلائعه الأكثر وعياً، كمحرك وكلاعب أساسي في حركة اليقظة والتجديد، وهو مالا تستطيع الطبقة الفاسدة، والكثير من قيادات الفصائل الفلسطينية، وقيادات الأحزاب العربية داخل الأخضر، رؤيته، بل استيعابه. أي بالتوازي مع مسار انحلال الطبقة السياسية، نما وعي جديد، حمله طلائع من الجيل الجديد وشريحة واسعة من الأكاديميين، والمثقفين النقديين، دون أن تدرك حجمه ومدى تأثيره في عملية توليد الجديد الذي نشهد الآن ثماره، وقسماته العظيمة، في الهبات السابقة والهبة الشعبية الكبرى الحالية.
وحدة الفعل المقاوم
ليست المرة الأولى التي ترسم غزة أسطورة صمود. وأسطورة هنا ليست وصفا شاعرياً، بل حقيقة سياسية، وفعلية، وخاصة وأنها تجري في محيط عربي رسمي مظلم. لكن الجديد هو أن غزة تدخل في معركة الكل، وتتواصل مع القدس وفلسطين، وهذا هو الأكثر إزعاجاً لحكومة نظام الأبرتهايد، وتتحدث أبواقها صراحةً عن رعبها من هذا التطور، لأن الفصل بين غزة والقدس، وبقية فلسطين وشعبها، كان محور استراتيجيتها في فرض حصار إجرامي طويل على مليوني فلسطيني يكتظون في شريط أرضي صغير. لم تغير “معركة سيف القدس” الواقع المادي، ولم تهدم جدارا إسمنتيا واحدا، ولم تزل مستوطنة واحدة ولكنها هشمت الحواجز الرمزية بين أبناء الشعب الواحد، وحطمت أوهام المستعمر، إلى الأبد، بإمكانية تسليم الشعب الفلسطيني بمشروعه الاستعماري الإحلالي. لقد زرع المستعمر التجزئة والتقسيم، وحصد الوحدة والفعل المقاوم الموحد.
من المهم الانتباه إلى أن المعركة انطلقت شرارتها من مدينة القدس، وانتقلت إلى فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨، ومن ثم إلى قطاع غزة، واخيرا الضفة الغربية، وفي خلالها انتشرت مظاهرات التضامن الحاشدة وغير المسبوقة في حجمها عالميا. وقد أشعل شرارتها المناضلون في الشيخ جراح، وباب العامود، والمسجد الأقصى، ومن ثم في المدن الفلسطينية المستعمرة والمهوّدة، والتي تسمى مختلطة، داخل الخط الأخضر. جيلٌ ظل يتمرس ويراكم التجربة النضالية، في حراكات وهبات محدودة، وفي التحريض في السوشيال ميديا، إلى أن تمكن من توسيع الحركة الشعبية التي حققت انتصارات رمزية هامة، بأساليب شعبية، متقدمة.
مخاطر تهدد الانجازات
تعوّدنا أنه بعد كل معركة يخوضها شعبنا، تسارع القوى الخارجية، وأنظمة عربية، وإسرائيل منهم، إلى إفراغها من معانيها، وإجهاض إنجازاتها حتى لو كانت معنوية. وذلك من خلال الإعلان عن تقديم دعم اقتصادي، لتحسين وضع الناس المنكوبين، ووعود بالعودة الى ما يسمى بالعملية السلمية، و حل الدولتين الاستعماري، الذي كان منذ بدايته غطاءً للتوسع الاستيطاني ولتصفية قضية فلسطين . كما لا تكف هذه القوى الدولية، حليفة إسرائيل، عن سياسات تقسيم الفلسطينيين، من خلال محاولة إعادة ترميم قيادة أبو مازن، المتهالكة، على حساب قيادة المقاومة في قطاع غزة.
وفي ظل هذا التآمر الجديد، يقع على عاتق حركة حماس التي خرجت من هذه المعركة، رغم الخسارات الفادحة في الأرواح، الطرف الأقوى، اعتماد نهج وطني جامع يتجاوز الفئوية، وتوجه مدني أكثر تقدما ووضوحا، وأكثر انفتاحا على الشرائح الاجتماعية الشعبية، والفئات العمرية الشابة، التي كانت عصب الحراك الشعبي الواسع. المعركة طويلة وصعبة ، والنصر السياسي المظفر، ليس إلا محطة هامة، فتحت أفقاً جديداً وواعداً للنضال التحرري الوطني والإنساني.
كلمة أخيرة عن دور فلسطينيي ال ٤٨
يحتاج دور هذا الجزء من شعب فلسطين إلى وقفة مطولة نأمل أن تكون فرصة قادمة لذلك، وذلك نظراً لخصوصية موقعه، وفي ظل انخراطه العارم في الهبة الشعبية الراهنة، بصورة فاجأت مرة أخرى نظام الأبارتهايد الكولونيالي، بل فاجأت الفلسطينيين في كل مكان.
ولكني أعيد التأكيد على ما كتبته في ورقة مطولة لمؤسسة مسارات البحثية، في رام الله، و من خلال مداخلتي مع المرحوم صائب عريقات، عام ٢٠١١، حاججت فيها أن على الحركة الوطنية الفلسطينية، أن تتعامل معنا ككنز استراتيجي وليس كعبء. إذ أن المفاوض الفلسطيني، لم يكن ليجرؤ على إثارة أي من المظالم اليومية التي يتعرض لها هؤلاء الفلسطينيون، ناهيك طبعا عن إخراجهم من الحل .
كما أنه يجب أن يكون فهمنا دقيقا، وتقييمنا موزونا لما يستطيعون القيام به، وما لا يستطيعون، بعيد عن النظرة الرومانسية، وذلك كي يتمكنوا من مواصلة الارتقاء بدورهم، دون استدعاء رد وحشي من نظام استعماري ينحو نحو الفاشية. وهم حتى الآن، منذ عام ١٩٤٨، اعتمدوا أشكال المقاومة الشعبية المدنية، والثقافية والفنية، وهو ما تجمع عليه كل أحزابهم وحركاتهم وحراكاتهم الشبابية. وما تقوم به أجهزة المؤسسة الصهيونية، من حملة قمع غير مسبوقة، من اعتقالات بالجملة، واعتداءات وحشية، على المشاركين في الهبة، تستهدف تقويض ما تم إنجازه، وقمع هويتهم الوطنية الفاعلة. كلما تعززت قوة هذا الجزء من شعبنا، تقدم المؤسسة الصهيونية على إجراءات قمعية أكثر وحشية، لتكريس ما نهبته منا ومن أقاربنا، وأبناء شعبنا.
هذا الجزء من شعبنا، وخاصة طلائعه من الجيل الجديد، وشرائح واسعة من مثقفيه وأكاديمييه، هم يعيشون صيرورة مستمرة للارتباط بالمشروع الوطني التحرري الذي يتشكل من تحت، وأمامه تحديات هائلة..