من خطاب المواطنة إلى خطاب التحرر وتفكيك الأبرتهايد والاستعمار

عوض عبد الفتاح

من كتاب “رؤيتنا للتحرير ” نضع بين أيديكم مقالتي، المنشورة، ضمن مساهمات ل٢٧ كاتباً، ومثقفاً، وناشطاً، واكاديمياً، فلسطينيا، في كتاب صدر باللغة الانجليزية، مؤخراً، حرره وقدّم له الاكاديمي والناشط الاكاديمي، المقيم في الولايات المتحدة، رمزي بارود، والمؤرخ والناشط اليهودي إيلان بابي، بعنوان : Our Vision For Liberation وعنوان فرعي Engaged Palestinian Leaders and Intellectuals Speak Out . طلب المحرران من جميع المساهمين أن يكتبوا رؤيتهم من خلال تجاربهم الشخصية، وكيفية تطور رؤيتهم السياسية والفكرية للتحرر والتحرير . وبعد صدور النسخة الانجليزية، قامت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومقرها في بيروت، والتي يديرها الاستاذ ماهر كيالي، بترجمة الكتاب الى العربية.
حصلنا على النسخة الانجليزية، ولم نحصل بعد على النسخة العربية. وننشر في موقعنا المقالة باللغتين، العربية والانجليزية.


المستوطن الغازي الذي وصفني بالمستوطن !

في بدايات الثمانينات، دخل رجلٌ إسرائيلي كهل، إلى مكتب الجريدة التي كنتُ أعمل بها، في مدينة القدس الشرقية، واسمها English Elfajr جريدة الفجر الإنجليزية. عرّف نفسه بأنه صحفي، يعمل لحساب جريدة معاريف، وهي الجريدة الإسرائيلية الثانية من حيث اتساع انتشارها في حينه، وأنه يشتغل على تقرير عما أسماه ظاهرة إنتقال فلسسطينيين، حملة المواطنة الإسرائيلية، للسكن في القدس الشرقية، التي احتلتها إسرائيل عام 1967، والأمر الذي أثار استغرابي الشديد. كان اسمي، كصحفي، ولم أكن قد أنهيت ال ٢٥ من عمري، قد بدأ يظهر مُوقعاً على تقارير صحفية، وفي عمود الرأي. وتبين أنه كان قد قرأ خبراً في صحيفة هآرتس عن اقتحام رجال أمن إسرائيليىن لمكتب الجريدة، لتسليمي أمراً من وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي يمنعني من دخول الصفة الغربية وقطاع غزة “لأسباب أمنية”، والاعتداء عليّ بوحشية داخل سيارة الشرطة التي أقلّتني إلى مركز الاعتقال سيئ الصيت، “المسكوبية”، وأيضا داخل غرفة الاعتقال. وكانت صحيفة هآرتس، الصهيونية “اللبرالية”، عرفتني ب ” صحفي عربي إسرئيلي” وهو المصطلح الذي كانت تستعمله إسرائيل لوصف الفلسطينيين الذين نجوا من جرائم التطهير العرقي، وفُرضت المواطنة الإسرائيلية عليهم، و ذلك في إطار السياسات الاستعمارية الهادفة لأسرلتنا ولفصلنا عن الشعب الفلسطيني، وتاريخه وثقافته، ولطمس هويتنا الوطنية، واستبدالها بهوية هجينة موالية للدولة اليهودية الصهيونية.

وقصة وصولي من إحدى قرى الجليل الصغيرة، “كوكب أبو الهيجاء”، في شمال فلسطين/إسرائيل، التي ولدت وترعرعت فيها، إلى الجريدة، وقبولي للعمل فيها، مثيرة، لأنها تحكي عن عقيدة القمع والتحكم الإسرائيلية، بحياتنا، نحن الذين نجوْنا من عملية التطهير العرقي عام 1948، وتم تحويلنا إلى مواطنين إسرائيليين. ومنذ ذلك الحين خضعنا لعملية تعتيم إعلامي، وتجاهل، لعقود، من كافة القوى الدولية والإقليمية، وحتى العربية، لأسباب مختلفة. كما تحكي جزءاً من قصتي الشخصية وتجربتي المريرة مع هذه الدولة وأجهزتها الأمنية. وجانب من هذه القصة، هو أن استدعائي للعمل في الجريدة، جرى بعد أن فصلتني المخابرات الإسرائيلية التي تسيطر على القسم العربي في وزارة المعارف الإسرائيلية، مرتين، من سلك التعليم، كمعلم للغة الإنجليزية، من مدرستين عربيتين، بسبب آرائي السياسية، ومناهضتي لمناهج التعليم المفروضة على المدارس العربية، التي تقصي الرواية الفلسطينية كليا، وتشوهها. وقد كنت، قبل قبولي بالعمل، أرسلت للجريدة، عبر البريد، من مسقط رأسي، مقالين شرحت فيهما كيفية استخدام إسرائيل عملية التعليم في المدارس العربية، كأداة سيطرة وتحكم وقمع، وطمس الرواية الفلسطينية. كنت أعتبر أن مَحو تاريخ شعبي، وطمس جريمة الطرد الجماعي بحق شعبي، وجهٌ آخر لجريمة التدمير المادي لفلسطين وشعبها. ولم تكتف السلطات الإسرائيلية بهذا الفصل، بل لاحقتني، كصحفي ملتزم، واتهمني رجال المخابرات، عند اعتقالي، ويا للسخرية، بأني أخون دولة إسرائيل، من خلال عملي في جريدة فلسطينية، مع أنها مرخصة، كوني “مواطنا إسرائيلياً” حسب قولهم. وعمقت تلك التجربة المريرة إدراكي لواقعي المركب، كفلسطيني و”مواطن إسرائيلي”، أي أن الأمر ليس بسيطاً أن تُعرّف نفسك كفلسطيني، مثل أي فلسطيني خارج حدود مناطق ال 48. وتلك هي الحالة المعقدة التي لا تزال تعيد إنتاج نفسها داخل إسرائيل، والتي قادتنا لاحقاً، نحن الملتزمين بانتمائنا، قولاً وفعلاً، إلى الشعب الفلسطيني، إلى البحث عن معادلات مركبة لمواجهة نظام القهر الذي نرزح تحت نيره. والحقيقة، أيضا، أني كنت قد انخرطت، بعد فصلي من التعليم، عام 1980، في حركة وطنية سياسية ناشئة، تشدد على الهوية الوطنية الفلسطينية، وتدعو لحل الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين الانتدابية، هي حركة أبناء البلد، وقد أسهمت، إلى جانب رفاقي، في إعادة بنائها وتشكيل هيئات مركزية قيادية ونشطت فيها، إضافة إلى عملي الصحفي، كنائب للأمين العام للحركة.

أكمل الصحفي الكهل، المذكور، المقابلة معي، والتي استمرت حوالي الساعتين، وقد انحرفتْ في جزءٍ منها إلى نقاش سياسي متوتر، إذْ تحولت إلى مجابهة ساخنة بين شخصين كل منهما يحمل رواية مختلفة؛ رواية شعب تعرض لأكبر عملية سطو في وضح النهار، في مواجهة رواية زائفة لمجموعة غريبة معتدية غازية، تدعي أنها عادت إلى أرضها بعد 2000 عام.

القصة ُتصبح أكثر غرابة، وأكثر إحباطاً، ومحيرةً، عندما تفاجأ في اليوم التالي أن المقابلة التي أجراها الصحفي الإسرائيلي معي، وهي المرة الأولى في حياتي التي أتحدث فيها لصحيفة إسرائيلية، معنونة بالعبارة التالية “: المستوطن عوض عبد الفتاح ينادي بدولة على كل فلسطين التي ينادي بها ياسر عرفات”. والحقيقة لم يكن العنوان مفاجئاً تماماً، إذ إنني كنتُ صدمتُ من أسئلته الاستفزازية، خلال اللقاء الذي كما ذكرت، تحول إلى ساخن ومتوتر، ولكني لم أكن أتوقع أن يضع عنواناً استفزازياً، ومضحكاً في الوقت ذاته، ويصفني بالمستوطن. وكان سؤاله المركزي: “كيف تقبل أنت بصفتك مواطنا إسرائيليا، السكن في أرض محتلة”! مقدماً نفسه بأنه صهيوني لبرالي لا يقبل بالسكن في الأرض المحتلة عام 1967. هكذا تعرفتُ على كيفية تفكير جزء من رموز التيار الصهيوني اللبرالي، او حركة العمل الإسرائيلية، المسئولة عن غزو فلسطين وتشريد شعبها، الذين يمارسون إنفصاماً أخلاقياً تجاه الفلسطينيين. يحتلون أرضنا، يقتلون، ويطردون أبناء وبنات شعبنا من بيوتهم، ويُسكنون محلهم يهودا من خارج فلسطين، ويدعون أن دولتهم ديمقراطية. أما الجانب التحريضي المتضمن بالعنوان هو ربط موقفي بياسر عرفات، زعيم الثورة الفلسطينية، الذي كانت إسرائيل تعتبره قاتلاً وإرهابيآً، وليس مقاتلاً من أجل تحرر شعبه المشرد.

وخلال المقابلة، واستماعه لإجاباتي التي صدمته، غضب وثار هذا الصحفي عندما شرحتُ له رأيي، بأنني لست غازياً أومحتلاً أو مستعمراً مثله، وأنني صاحب هذه الأرض، ومن حقي أن أسكن في كل بقعة في فلسطين، وأن عائلات فلسطينية كثيرة، ومنهم أقاربي، لها امتدادات في كل فلسطين، وفي دول الشتات، خارج فلسطين. وأن لا حلَّ للصراع سوى بتحرير فلسطين، وإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية، غير العنصرية، التي تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية، منذ أواخر الستينات. وحقيقة، لم يكن هذا الخطاب السائد داخل “الأقلية الفلسطينية” داخل الخط الأخضر، فقد كان هذا الخطاب، بنظر الدولة الاسرائيلية، وحتى أوساط واسعة في المجتمع الفلسطيني (داخل إسرائيل)، خطاباً مغامراً أو غير واقعي، ولا يتجرأ الإعلان عنه سوى فئة قليلة، لأنه يجلب الملاحقة والتنكيل لأصحابه. كان خطاب المساواة وحل الدولتين، الذي رسخه الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وغالبية أعضائه من العرب، هو السائد. إضافة إلى خطاب تيار غير منظم، تقليدي، يريد التكيف مع المستعمر، وهو تيار، تم تدجينه بفعل سياسات الترهيب، والاحتواء، ودفع المواطنين العرب للتصويت للأحزاب الصهيونية التي تقمعهم.

إن بدايات تشكّل وعيي المبكر، بأن وطني مغتصبٌ ومسروقٌ، وتاريخه مطموس، لم تأت من قراءتي المبكرة لكتب عن قضية فلسطين، وعن نظريات الاستعمار الكولونيالي، مثل كتاب المفكر الفلسطيني، فايز الصايغ، أو المفكر الفرنسي اليهودي ماكسيم رودنسون، أو بعض الكتابات الماركسية عن الصهيونية، ولا من مناهج التعليم المشوهة المفروضة على المدارس العربية، بل من مصدرين مهمين؛

الأول؛ والديّ اللذان دأبا على التحدث في بيتنا، ومنذ الطفولة، بصورة عفوية، عن كيفية احتلال قريتي بطريقة وحشية، وحديث والدي المتكرر عن إستشهاد أخيه الأكبر أثناء مقاومة إحتلال القرية، وحزنه الشديد عليه، وبكاء والدتي في مناسبات عديدة، على غياب اعمامها واخوالها، الذين اضطروا للهرب عند اقتحام العصابات الصهيونية القرية، ولجوئهم، أسوة بمئات الآلاف، من أبناء شعبنا، إلى الدول العربية المحيطة، هؤلاء المطرودون الذين عاشوا وتقدم بهم العمر وماتوا في المنافي، دون أن يسمح لهم بالعودة، ولكن ليس قبل أن يورثوا روايتهم التراجيدية لأبنائهم وأحفادهم، حتى تبقى وقود الكفاح من أجل العودة.

المصدر الثاني؛ الكيبوتسات الصهيونية، الاشتراكية التي، ومنذ أواخر الخمسينات، أقيمت بجوار القرية، وعلى أراضيها، ببنية تحتية حديثة، ومياه جارية وشبكة كهرباء، التي لم توصَل بالقرية إلا بعد ثلاثين عاماً من قيام إسرائيل، وكنتيجة لمطالبات وجهود طويلة قام بها الأهالي. كان والدي، كما أهالي القرية، ينظرون بحسرة وألم، إزاء هذا الزحف الاستيطاني التهويدي الأجنبي المتسارع، ويطرحون الأسئلة الاستنكارية الصعبة؛ كيف تُسلب منا أراضينا، وتزرع بالفواكه، بطريقة حديثة، ونضطر للعمل في قطفها بأجور متدنية، ونعامل كغرباء، واشبه بالعبيد! وللتدليل على حجم الظلم، تُمثل قريتي نموذجاً مصغراً لكيفية تطبيق مخططات النهب والاستيطان والطرد، إذ لم يتبقى من أراضيها سوى 2000 دونم، من أصل 20000، وهي اليوم محاطة بأربع مستوطنات، لا يصل مجموع عدد سكانها إلى نصف عدد سكان قريتي. أما ما تبقى من أرض للفلسطينيين، مواطني دولة إسرائيل، بفعل النهب والمصادرة والاستيطان والتهويد، فهو أقل من 3%؜ من مجمل أراضيهم.

لماذا نورد هذه المعلومات والمعطيات عن قرية فلسطينية صغيرة، داخل إسرائيل، أي المنطقة الفلسطينية التي احتلتها الحركة الصهيونية عام 1948، وأقامت عليها كيانها اليهودي الصهيوني؟ ليتعرف القارئ الأجنبي، خاصة الغربي، حقيقة دولة إسرائيل، التي أقامتها حكومات الغرب، وموّلتها ودعمتها ومنحتها اعترافا دوليا. هذه هي إسرائيل التي واصلت حكومات الغرب، منذ عام 1948، تمجيدها كدولة “ديمقراطية، متنورة”، في الوقت الذي كانت تفرض حكماً عسكرياً قمعياً، قيّد حركة المواطنين العرب، وأتاح تنفيذ مخططات مصادرة كبيرة، وهدم مقومات نهوضهم الاقتصادي- الاجتماعي التقليدية، ومنع تنفيذ قرار الأمم المتحدة بخصوص حق العودة، رقم 194 وقتل أكثر من 5000 آلاف فلسطيني حاولوا العودة إلى بيوتهم في السنوات الأولى لقيام إسرائيل، دون أن تتعرض للمحاسبة من قبل المجتمع الدولي الذي منحها الشرعية الدولية.

وبعد عدوان 1967، تم نقل هذه السياسات، التي جرى تنفيذها بحق مواطني دولة إسرائيل من الفلسطينيين، تحت إدارة الحكم العسكري، إلى مدينة القدس، والضفة الغربية وقطاع غزة، لتحولها دولة إسرائيل إلى جزء منها. ولكن من خلال هذا الاحتلال الغاشم، وبخلاف رغبة وتوقعات المحتل، تم فتح باب الالتقاء مجددا أمام الفلسطينيين من على جانبي الخط الأخضر، وبدأت مرحلة من التفاعل السياسي والثقافي المتبادل، والتعرف مجددا على ما هو مشترك، كشعب واحد.

ومنذ أواسط السبعينيات، بدأ الفلسطينيون داخل إسرائيل يظهرون كجزء حيّ وفاعل من الشعب الفلسطيني، على خلاف تصورات الخارج بأننا مجموعة خاملة مستسلمة، وأننا ذبنا في الدولة اليهودية الغازية، وقبلنا بمكانتنا الدونية، وهامشيتنا السياسية. ولكنّ تحوّل هذا الجزء من شعب فلسطين إلى رقم صعب في الصراع الداخلي ضد الصهيونية، احتاج إلى ثلاثة عقود من النضال والتنظيم والتطور التعليمي والثقافي، تجلت إفرازاتها السياسية أولاً في إضراب يوم الآرض، والمواجهات الدموية ضد قوات القمع الإسرائيلية، عام 1976، وثانيا في عام 2000، عندما التحم هؤلاء مع إخوتهم الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، في انتفاصتهم الثانية العارمة، التي تفجرت على خلفية محاولة فرض تسوية تصفوية للقضية الفلسطينية، وانكشاف خديعة اتفاق أوسلو. وفي كلتا الانتفاضتين ارتقى شهداء من فلسطيني ال 48، وجرحى كثيرون. ومنذ ذلك التاريخ، يمر الفلسطينيون بتحولات عميقة، سواء على المستوى الداخلي، أو على مستوى العلاقة مع إسرائيل، أو مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وهو الأمر الذي عكسته “انتفاضة الأمل والكرامة” وهي الانتفاضة الشاملة الثالثة، التي اجتاحت فلسطين، من البحر إلى النهر، في أيار الماضي 2021، حيث شاركوا بفعالية في هذه الانتفاضة، من خلال المظاهرات العارمة وإغلاق الشوارع. هكذا فرض فلسطينيو 1948، أنفسهم على خارطة الصراع، كقوة حية، وديناميكية، بعد عقود من التجاهل والاستهانة بوزنهم، وطاقتهم، وبحقوقهم.

حركة أبناء البلدوالدولة العلمانية الديمقراطية في فلسطين التاريخية

في عام 1972، وبعد خمس سنوات من رفع الحكم العسكري، ظهرت حركة وطنية محلية، في مدينة أم الفحم، الفلسطينية، داخل حدود إسرائيل لعام 1948، هي حركة أبناء البلد. وقد جاء ظهور هذه الحركة امتدادا لحركة قومية، هي “حركة الأرض” حظرها الحكم العسكري، وشتت قادتها، في أوائل الستينيات، بعد أقل من خمس سنوات من تأسيسها. أختلفت حركة الأرض مع برنامج ونهج الحزب الشيوعي، وتأثرت الحركة بمشروع جمال عبد الناصر القومي، ولكن حتى اضطرارها لمحاولة خوض انتخابات الكنيست، للحصول على حرية العمل السياسي، والتواصل مع الناس تحت الحكم العسكري، لم يسعفها. كان موقف إسرائيل صارما في منع أي حركة قومية مستقلة.

هكذا كان الحزب الشيوعي (حزب عربي يهودي) الحزب الوحيد الذي سُمح له بالعمل بصورة قانونية، مستمدا تلك الشرعية من كونه أيد قرار التقسيم الظالم، واعترف بإسرائيل، والذي قاده منطقيا للمشاركة في انتخابات الكنيست فور قيام إسرائيل، وقبل أن يجف دماء الشهداء. جاء هذا الموقف، تجسيدا لتبعية الحزب للقيادة السوفييتية الستالينية، التي أمدّت الحركة الصهيونية بالسلاح. ويمكن القول إن هذا الحزب هو الذي طبّع فكرة المشاركة في كنيست الكيان الإسراـئيلي، وجعل أوساطا واسعة من فلسطينيي ال 48، يشاركون في التصويت كمدخل لتحصيل حقوق يومية، أو لإسماع صوتهم. ولكن من ناحية ثانية لعب الحزب من خلال قيادته العربية دوراً في مناهضة سياسات التمييز والمصادرة، ووجد العديد من الوطنيين والمثقفين فيه متنفسا للتعبير عن مشاعرهم، ومواقفهم السياسية، في منابره الثقافية والأدبية، رغم خلافاتهم مع أيدلوجيته الماركسية، وموقفه من “دولة إسرائيل”، التي اعتبرها ونظر لها كتجسيد لحق تقرير المصير لليهود. ذلك أن البقية الباقية من الفلسطينيين، كانت خضعت لحكم عسكري قمعي، ولتقييدات شديدة على الحركة والتنقل، ولسياسات ترهيبية، على مدار عقدين من الزمان.

وخلال سنوات قليلة، وخاصة بعد إضراب وهبة يوم الأرض في 30 آذار عام 1976، تحولت حركة أبناء البلد، إلى حركة قطرية مركزية، ولكن حضورها الأكبر، وتأثيرها الأعمق، كان بين الطلاب العرب، في خمس جامعات إسرائيلية. ونقشت على رايتها شعار الانتماء إلى الهوية الفلسطينية، وإلى الشعب الفلسطيني، في مواجهة سياسات إسرائيل التي سعت إلى محو هويتنا، وفصلنا عن الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية.

اعتبرت حركة أبناء البلد أن فلسطينيي ال 48، جزءٌ من الشعب الفلسطيني، وأننا نقع تحت الاحتلال كبقية أبناء شعبنا، وأن الحركة الوطنية الفلسطينية، التي نشأت وتبلورت في المنفى، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية تُمثلنا وطنياً، وتعبر عن طموحاتنا. ولكننا، وإن أيّدنا حق (م. ت .ف) في المقاومة بكافة أشكالها، إلا أن الحركة، وبسبب اختلاف الظروف السياسية، اعتمدت المقاومة المدنية؛ السياسية، والثقافية، والقانونية، وأقامت الفروع المنظمة في الجامعات الإسرائيلية، وفي عدد قليل من البلدات العربية، واعتمدت خطاباً سياسيا وأيدلوجيا صدامياً ضد إسرائيل باعتبارها كيانآً استعماريا استيطانيا، عدوانيآً. كما تبنت برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، العودة والتحرير، وإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية في كل فلسطين. وتبنت الحركة مبدأ مقاطعة الانتخابات البرلمانية للكنيست الإسرائيلي، تفاديا لإعطاء شرعية لكيان استيطاني. شكلت هذه المواقف، بطبيعة الحال، صداما مع مواقف الحزب الشيوعي، ودارت بينهما نقاشات فكرية وسياسية حادة، ومنافسات شديدة على مقاعد لجان الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية، وهي لجان قومية مستقلة بادر إليها الطلاب ذوو النزعة القومية، منذ الستينيات، كبديل عن الأطر العربية _اليهودية الشيوعية.

وعلى خلفية مواقفها، الوطنية واليسارية الجذرية، تعرض معظم قيادات وكوادر الحركة لملاحقات واعتقالات متكررة، وأحيانا للتعذيب، وفصل من العمل، ومن الدراسة الجامعية، ومن مهنة التدريس، بسبب نشاطهم ومواقفهم، وكذلك إغلاق صحفها، ولكن دون الوصول إلى حظرها، وكان ذلك من الأسباب التي أعاقت توسعها وتحولها إلى حركة جماهيرية مؤثرة.

لقد وسم نضال الحركة طابع مناهضة الصهيونية والإمبريالية العالمية، واعتبرت نفسها جزءاً من حركة التحرر الفلسطينية، والعربية، وحركة التحرر العالمية، وتحديداً جزءأ من التيار اليساري الاشتراكي. كان ذلك في حقبة المشاريع والأحلام الكبيرة التي نشأت عليها أجيال فلسطينية وعربية وعالمية، والتي امتدت من الخمسينات حتى أواخر الثمانينيات. لكن انهيار الاتحاد السوفييتي، والغزو الأمريكي للعراق، والحروب الإسرائيلية العدوانية المدعومة من الغرب، وتفكك الحالة العربية الرسمية، واستسلام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال التوقيع على اتفاقية أوسلو، دفع الحركة وأوساطا قومية أخرى، لإجراء مراجعة عميقة والتي أدت إلى تعديل في مقاربتها لمواجهة النظام الصهيوني، ولكيفية التعامل مع خصوصية واقع فلسطينيي ال 48، الذي كان يتشكل ويتأثر بعوامل إسرائيلية، سياسية واقتصادية، وينتج أنماطا سلوكية هجينة لدى شرائح اجتماعية، دون أن ننتبه في حينه.

بعد اتفاق أوسلو؛ الانتقال من خطاب مواجهة الصهيونية من خارجها إلى مواجهتها من داخل بنيتها الداخلية.

أحدث اتفاق أسلو انقلاباً عميقاً في مسار القضية الفلسطينية، وألقى بظلاله السّود على تجمعات الشعب الفلسطيني كافة. عمليا اختزل القضية بدولة في الضفة والقطاع، ومع تأسيس السلطة الفلسطينية، والشروط التي قامت بموجبها، تشكل وعىٌ جديدٌ زائف بديل عن الوعي الأصيل السابق، وعي التحرر والتحرير والصدام الوجودي مع الصهيونية، باعتبارها حركة استعمارية استيطانية، إحلالية. وترتب على ذلك من بين أمور أخرى نتيجة كارثية ذات وجهين؛ تهميش لقضية اللاجئين، وهي جوهر القضية الفلسطينية، وفلسطينيي ال 48، الذين يصل عددهم اليوم حوالي مليونين. لقد شطبهم اتفاق أوسلو من معادلة الصراع ومن الحل، مما يعني تكريس دونيتهم، وإدامة حالة التمييز والظلم، تحت حكم نظام الأبرتهايد. ولا يقل خطورة عن ذلك التسليم بالصهيونية وبدولة إسرائيل كدولة طبيعية، والتنصل من المقاومة الشرعية التي خاضها الشعب الفلسطيني، والتضحيات الهائلة التي قدمها، منذ أكثر من مائة عام، في سبيل تحقيق الحرية والعدالة. ولهذا عارضت الفصائل الفلسطينية، اليسارية، هذا الاتفاق، ولكنها، للأسف، تكيفت معه، كواقع حاصل، مما سمح بهذا النهج الانحرافي بالتعمق والتمأسس، في الساحة الفلسطينيية، مؤديا إلى إنقسام كارثي راسخ، وإلى تقويض أداة التحرير، والإطار الجامع لشعب فلسطين، أي منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن، ما كان مفاجئا، للقيادة الإسرائيلية، وإلى حد ما للفلسطينية، هو المعارضة الشديدة لاتفاق أوسلو في أوساط القوى الوطنية والقومية الفلسطينية، داخل إسرائيل، خاصة حركة أبناء البلد، والأوساط الفلسطينية ذات الميول القومية والديمقراطية، التي انسحبت من الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي أيد الاتفاق، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأوساط شعبية أخرى، ونجاح هذه القوى بتأسيس جسم سياسي كبير وفاعل، يناهض أوسلو، ويتحدى منطقه الانهزامي والاختزالي. إذ إن هذه القوى، التي تعيش في ظروف المواطنة الإسرائيلية، لم تكتف بتوجيه النقد الشديد لاتفاق أوسلو، باعتباره اتفاقاً استسلامياً، ولأداء القيادة الفلسطينية، المتنفذة، بل تنادت وعقدت اللقاءات الفكرية والسياسية ونجحت، في غضون أقل من عامين في إطلاق مشروع ثقافي سياسي، وبناء حزب جديد، هو حزب التجمع الوطني الديمقراطي، والذي، وبعد نقاش عسير، قرر خوض الانتخابات للكنيست لأول مرة عام 1996، بعد مقاطعة طويلة لهذه الانتخابات، وحقق تمثيلاً مهماً. وقد شغلتُ أمين عام هذا الحزب، حتى استقالتي عام 2016. كما عرّف الحزب نفسه كحزب عربي قومي، يسعى إلى بلورة الهوية القومية لفلسطيني ال 48، كجزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، في مواجهة تعامل إسرائيل معهم كطوائف دينية، لا حقوق قومية وجماعية لهم. وفي هذا السياق نظّرَ التجمع لمشروع قومي عربي وحدوي، ديمقراطي، من المحيط إلى الخليج.

شكل حزب التجمع، مرحلة فكرية – سياسية وشعبية جديدة، واستجابةً ليس للتحدي الذي طرحه اتفاق أوسلو فحسب، بل أيضا تعبيراً عن إعادة قراءة وفهم التحولات الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية، التي كانت تتشكل قبل مرحلة اتفاق أوسلو داخل مجتمع الفلسطينيين، مواطني “دولة إسرائيل”. وأيضاً جاء ذلك في سياق وعينا لمرحلة ما بعد سقوط الأنظمة الشمولية، الذي أسهم في تجديد خطاب حقوق الإنسان والديمقراطية وحق الأقليات القومية في المساواة في الحقوق الجماعية والفردية، منذ أواخر الثمانينيات مرورا بمرحلة التسعينيات من القرن الماضي، إذ توصلنا إلى قناعة بضرورة أو بفائدة إعتماد خطاب المواطنة الديمقراطية، المتصادمة مع جوهر دولة اليهود، في عملية الحفاظ على الانتماء والسلوك الوطني لشعبنا في الداخل. فقد كان يعني مواصلة التمسك بشعار التحرير والدولة العلمانية في كل فلسطين التاريخية، بمعزل عن تلك التحولات العميقة والانهيارات الكبيرة، وتجاهل انحسار بل أفول المناخ الثوري، كان يعني انعزالنا، كوكلاء تغيير، عن الواقع، وعن المجتمع، وفقدان القدرة على التأثير فيه، بل أسوأ من ذلك، كان، أيضا، يعني ترك المجال للأحزاب الصهيونية وللأحزاب العربية ذات التوجهات الاندماجية، لاستقطابهم، وتشويه وعيهم. وكانت هذه التحولات، ومن خلال ظهور نخب أكاديمية ومثقفة حديثة، وطنية، قد أفرزت وعياً بالديمقراطية اللبرالية، وبالمواطنة المتساوية، وبقيم اليسار الجديد. وبات التشديد على المواطنة، إلى جانب الاعتزاز بالهوية الفلسطينية، وبالانتماء للأمة العربية، مطلباً لتحسين ظروف المعيشة، والارتقاء بمستوى التطور التعليمي والثقافي لمجتمع (فلسطينيي 48) أُريد له أن يبقى متخلفا وضعيفاً، وسهل السيطرة عليه، وليس مجرد أداة للبقاء ومواجهة شبح الطرد الدائم، كما كان الحال عليه في السنوات الأولى لقيام إسرائيل.

تجلت ترجمة هذا التطور في التفكير السياسي، في اجتراح معادلة فكرية وسياسية جديدة، التي أعتقد أنها كانت إبداعاً لافتاً، من قبل جيل جديد من الفلسطينيين، مثلناه نحن، في مناخ التراجع الثوري وحملات التضليل والانهزامية، وهي معادلة ” هوية قومية ومواطنة متساوية”، والتي حددت بوضوح وصراحة، أن تحقيق ذلك مشروط بإلغاء وتفكيك يهودية الدولة، أي البنية القانونية العنصرية الكولونيالية. كانت الحاجة الوطنية لفلسطيني ال 48، تتمثل بولادة مرجعية وطنية قوية، تشكل البوصلة لهم، في غياب تفكك المرجعية الوطنية الفلسطينية الجامعة (منظمة التحرير الفلسطينية) وفي مواجهة واقعهم المركب، والظرف السياسي المتردي المستجد، وتمدهم بالأدوات النضالية المناسبة، والمعرفة العميقة بآليات اشتغال النظام الصهيوني، وبكيفية الدفاع عن وجودهم، والمطالبة بحقوقهم، دون التنازل عن قضيتهم الوطنية وحقوقهم الجماعية. لا بد من القول إن الانتقال من مرحلة الخطاب الاستعماري التقليدي، إلى خطاب دولة المواطنين، وتحدي يهودية الدولة، الذي تطلب آنذاك المشاركة في انتخابات الكنيست، كأداة لمخاطبة شعبنا، والرأي العام الإسرائيلي والعالمي، تطلب قدراً كبيرا من الجرأة الفكرية، وربما المخاطرة، انطوى أيضا على معاناة نفسية كبيرة ناجمة عن تناقضات وجود حزب فلسطيني قومي في الكنيست، خاصةً أننا جئنا من خلفيات أيدلوجية صارمة، ومن تجربة كفاحية مُرّة ضد النظام الصهيوني بمضمونه العنصري والاستيطاني وبرلمانه، وتوجهه الرأسمالي. وتكمن أهمية تبني التوجه السياسي الجديد، أنه ضُبِط بمعايير فكرية وأخلاقية، تمنع الانزلاق السياسي، وتُبقي نافذة لتطويره نحو رؤيا تحررية شاملة، وحل أكثر عدالة، أي الدولة الديمقراطية العلمانية في كل فلسطين . لذلك اتفق معنا الكثيرون أن تلك التجربة الفكرية السياسية والتنظيمية عبرت عن نضوج جماعي وحكمة عالية، وقدرة على التحلي بالمسؤولية تجاه المصلحة الوطنية.

ولهذا حقق حزب التجمع نجاحاً كبيراً، خاصة في السنوات العشر الأولى، سواء على مستوى انتشار خطابه، أو على مستوى الامتداد الشعبي، والنخبوي، وتحوّل إلى واحدٍ من الأحزاب الفلسطينية المركزية الثلاثة، في إسرائيل، بفترة زمنية قصيرة، بل أكثر الأحزاب صدامية في ميدان النضال الشعبي.

ومع مرور الوقت، تحول خطابه، أي “دولة كل مواطنيها”، كبديل عن دولة اليهود، إلى الخطاب السائد في المجتمع الفلسطيني، وإلى إستراتيجية أيدلوجية وسياسية فعالة في مواجهة الأيدلوجية الصهيونية العنصرية، وأشعل نقاشاً واسعاً داخل المؤسسات الصهيونية، الأكاديمية والسياسية، وأسهم في كشف كذبة اللبراليين الصهاينة، الذين كانوا أكثر عدائية من اليمين، ضد خطاب التجمع. وأعتقد أن شعارات حركة المقاطعة الفلسطينية الثلاثة BDS (حق اللاجئين، المساواة الكاملة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وإنهاء الاستيطان في مناطق 1967) مستوحاة من برنامج حزب التجمع. وهو ما أثار عداء وكراهية الحكومة والمجتمع الإسرائيلي على السواء، لهذا الحزب. فقد تعرض الحزب، وقياداته وكوادره، خاصة رئيسه، وعضوالكنيست آنذاك، المفكر البارز عزمي بشارة، إلى حملة تحريض منهجية، تمثلت في محاولات متكررة لشطب ترشحه للكنيست، ولمحاكمات عديدة، بحجة إنكار حق اليهود في دولة خاصة بهم، وأنه يستخدم الأدوات الديمقراطية لتقويض شرعية دولة إسرائيل. كانت أصوات إسرائيلية قليلة، جريئة ومبدئية، من أكاديميين ومثقفين، التي دافعت عن الحزب، ورأت في التجمع، الحزب الديمقراطي الحقيقي الوحيد في إسرائيل، كونه ينادي بدولة كل مواطنيها، عربا ويهودا، والعدالة للشعب الفلسطيني، بما تنص عليه القوانين والقرارات الدولية. وفي الواقع حصل الحزب في المعارك الانتخابية للكنيست، على مدار عقدين على مئات الأصوات اليهودية وكما هو معروف، تتوجت الحملة ضد عزمي بشارة، بفبركة ملف أمني، شمل ادعاء أنه تواصل مع ” العدو أثناء الحرب” أي خلال عدوان إسرائيل على المقاومة اللبنانية عام 2006، والذي قاد إلى منفاه القسري.

لقد تمكن حزب التجمع من إعادة كشف التناقض البنيوي بين الصهيونية والمساواة، بصورة غير مسبوقة، وساهم ذلك في تسليط الضوء على عدالة قضية الفلسطينيين في إسرائيل، وكذلك سائر الفلسطينيين أينما كانوا. وهذا كان أحد اهدافنا الرئيسية، حيث قررنا أننا لن نخضع لميزان القوى والضغوطات، التي دفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، للتوقيع على اتفاق أوسلو الاستسلامي، مستعينين بالمواطنة المفروضة علينا، مع وعينا التام بالتناقض الكامن في هذا التوجه، كأداة لمقارعة نظام الأبرتهايد الصهيوني وفضح عنصريته البنيوية، وتعبئة جماهيرنا وحشدها في النضال، من أجل العدالة والمساواة والمواطنة الكاملة.

في مقابل انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية، عام 2000 ، وفي مواجهة نمو وتوسع الحركة الوطنية الفلسطينية داخل “إسرائيل”، وعلى رأسها حزب التجمع، تصاعدت سياسات إسرائيل العدائية، والعنصرية، والاستيطانية، ضد الفلسطينين في إسرائيل، وتلاشت الفروقات في التعامل الإسرائيلي بينهم وبين إخوانهم الذين يعيشون تحت الحكم العسكري الإسرائيلي في الأرض المحتلة عام 1967، ووضعت سياسات رسمية، قانونية وإدارية، تَسدّ الطريق أمام أي إمكانية لتحقيق المساواة بينهم وبين اليهود، بحيث بدأ المشهد في كل فلسطين يظهر واقعا يرزح تحت نظام قهر واحد. وهكذا بدأ الكثيرون داخل حزب التجمع وخارجه، يصلون إلى نتيجة بأن خطاب المواطنة والمساواة وصل إلى طريق مسدود، وبذلك التقوا في توجههم مع مبادرات لإخوتهم الفلسطينيين الآخرين خارج الخط الأخضر وفي الدياسبورا، حول وحدة المصير ووحدة الحل، والتفكير بالعودة إلى الخطاب الكولونيالي، والنضال من أجل تفكيك نظام الأبرتهايد الاستعماري، من خلال توحيد الشعب الفلسطيني، ورؤيا تحررية وطنية وديمقراطية شاملة.

ولا بد من القول إن وصول خطاب المساواة والمواطنة الكاملة داخل دولة إسرائيل وتحدي الصهيونية من الداخل إلى طريق مسدود، لم يكن فشلا لحملة المشروع، إذ إنه أعاد فضح عطب النظام الصهيوني المزمن وغير القابل للإصلاح، بل يمكن القول أن حزب التجمع ملأ فراغا سياسيا هاما ما بعد أوسلو، داخل الخط الأخضر، وتمكن من إنتاج فكر سياسي حديث يقوم على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، تشربه، وتثقف عليه، الآلاف من النشطاء الذين أصبح جزء كبير منهم قادة على المستوى القطري والمحلي، وهو الآن يعيد فتح النقاش والتحول نحو المواطنة الديمقراطية في كل فلسطين التاريخية، في كيان سياسي واحد. لم يكن لدى مؤسسي حزب التجمع وقادته، أي وهم بأن إسرائيل يمكن أن تتحول إلى دولة ديمقراطية، أو أن تقبل بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي الفلسطينينة المحتلة عام 1967، ناهيك عن الموافقة على عودة اللاجئين، بدون مشروع تحرري شامل، وإستراتيجية نضالية حقيقية. بل كان ذلك مشروعا اعتراضيا، وإستراتيجية واقعية، للانخراط في النضال الفلسطيني، من موقعه الخاص.

من خطاب المواطنة وتحدي الدولة اليهودية من الداخل إلى الخطاب الأبرتهايد الكولونيالي:

كما ذكرنا، استنفد خطاب المواطنة ومقارعة الدولة اليهودية من الداخل، نفسه. وتأكد لعموم الناس، عدم قابلية النظام الإسرائيلي للإصلاح من الداخل فقد سدت إسرائيل الجديدة، الأكثر تطرفاً وعدوانية، كل الأبواب أمام خطاب المساواة، أو المواطنة المتساوية، وأصبحت أكثر يهودية وأقل ديمقراطية، وأصبحت عنصريتها أكثر سفوراً ضد الحركات الوطنية داخل الخط الأخضر والمواطنين العرب عموما، ولفكرة المساواة، وأشد إنكاراً لحق الشعب الفلسطيني في تحقيق مصيره. وكان آخر تجليات هذا التحول الجديد قانون القومية لعام 2018 الذي حصر حق تقرير المصير لليهود فقط، يهود العالم، وشطب كلمة مساواة من هذا القانون، واعتماد إجراءت قمعية مباشرة، مثل حظر حركة سياسية كبيرة هي الحركة الإسلامية واعتقال وسجن رئيسها، الشيخ رائد صلاح، بتهمة التحريض على العنف. وكذلك شن حملة إعتقالات واسعة عام 2016، في ليلة واحدة، بحق 39 قائداً وكادراً من حزب التجمع، التي شملتني أنا أيضا، كرئيس للحزب آنذاك، إذ أمضيت 11 يوما في الاعتقال، وذلك في إطار الملاحقة والتضييق على العمل السياسي.

وعلى خلفية هذه التطورات الإسرائيلية الفاشية، وعجز وتآكل القيادات الفلسطينية، تشهد، منذ عقدين، الساحة الفلسطينية، من خارج هياكل القيادات التقليدية، حراكات شعبية وفكرية، متنوعة، أيدلوجيا واجتماعيا، بديلة، تركز على وحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة الأرض، ووحدة القضية والمصير، والتي بات يطلق عليها الفضاء الثالث، كونه لم يتحول حتى الآن إلى تيار، منظم وجارف، بسبب عوائق موضوعية وذاتية.

كما اتسعت رقعة الناشطين من أجل حل الدولة الديمقراطية الواحدة، وانضمت شخصيات يهودية معروفة، من الوسط الأكاديمي، تنادي بهذا الحل. وعُقدت مؤتمرات، في الخارج والداخل، وصدرت بيانات، وكُتبت دراسات، وأُلفت كتب، وتكونت مجموعات عديدة بمبادرة أكاديميين، ومثقفين، فلسطينيين، وبعض اليهود، دعت إلى هجر حل الدولتين وتبني حل الدولة الديمقرآطية الواحدة. وأنتجت هذه المبادرت أدبيات هامة حول الفكرة، خلفياتها، ومنطقها. كما تصدت للعقبات والتحديات النظرية التي تقف أمامها. وترافق هذا النشاط، وتأسس، على إحياء الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، ونظرية الاستعمار الاستيطاني، حتى في الدوائر البحثية الاكاديمية الغربية، وتجرّأ أكاديميون غربيون، ويهود، على تطبيق هذه النظرية على إسرائيل باعتبارها في الأصل والآن، كيانا استعماريا استيطانيا إحلاليا، ونظام أبارتهايد. وتشهد الساحة البحثية، والثقافية الفلسطينينة، إقدام المئات من الشباب الأكاديميين على كتابة الأبحاث عن الاستعمار الاستيطاني، وعن مفهوم التحرر الوطني. وهناك العديد من المواقع الإكترونية الفلسطينية، في الداخل والخارج، التي تروج للفكر التحرري المتجدد، ولوحدة المصير الفلسطيني.

لهذه المبادرات أهمية كبيرة، إذ أسهمت إلى جانب مبادرات شعبية عديدة، والتي تذكّر بحق اللاجئين، وتقاوم الجدار، وتخوض حملة مقاطعة إسرائيل على الساحة العالمية، وتتحدى منطق أوسلو وتسعى إلى كسر حالة الجمود والدوغمائية التي كرستها طبقة أوسلو، في فتح أفق جديد، ومسار بديل للتفكير في كيفية الخروج من مأزق الحركة الوطنية الفلسطينية، عبر طرح رؤيا تحررية ديمقراطية، وشق طريق المقاومة الشعبية على أنقاض التعاون الأمني مع المستعمر.

غير أن هذه المبادرات، رغم اتساع هذا النقاش وامتداده إلى دوائر أكبر، وتحديداً في أوساط الأكاديميين، والمثقفين، وسياسيين سابقين، وطرحها في بعض وسائل إعلام دولية، لم تنجح حتى الآن في تكوين تيار فكري منظم، ذو تأثير حاسم في الرأي العام، ناهيك عن تكوين تيار شعبي وازن. هناك عوامل موضوعية وراء هذا الإخفاق، أولّها رفض إسرائيل القائم على التنكر التام لأي من أشكال حق تقرير المصير للفسطينيين. كذلك امتناع الفصائل الُفلسطينية، والأحزاب الفلسطينية داخل إسرائيل، عن تبني هذا الخيار، ليس لأنهم ضده مبدئيا، بل بحجة أن حل الدولتين، على خلاف حل الدولة الواحدة، الذي ترفضه إسرائيل بالمطلق، يحظى بشرعية دولية، مع أن هذه الشرعية لم تفعل شىيئاً لتطبيق القانون الدولي، بل بالعكس مكنت إسرائيل من تعميق مشروعها الكولونيالي وقتل هذا الحل، من خلال دعمها العسكري والمادي الهائل، ومساعدتها على الهروب من المحاسبة والعقاب بصورة منهجية. ومن ناحية ثانية، أسهمت هذه “الشرعية الدولية” من خلال الدعم المالي والتدريب في ترسيخ السلطة كأداة امنية تحمي الوجود الإستيطاني وتقمع المقاومه الفلسطينية، وتحويلها إلى جزء من النظام الكولونيالي في فلسطين، استجابة لتفاهمات مع إسرائيل وأمريكا كشرط لمنح الفلسطينيين، دولة أو كيانا سياسيا يطلق عليه دولة. وبطبيعة الحال هناك أيضاً أسباب ذاتية، تخص أصحاب تلك المبادرات، وتتعلق بعدم مقدرتهم على التشبيك الفعلي وتطوير العمل الجماعي، أو الجبهوي، واختراق الرأي العام الفلسسطيني.

وأعتقد أن هناك سبباً مهما آخر، يتعلق بكون غالبية المبادرات صدرت عن فلسطينيين يعيشون ويعملون وينشطون في الدياسبورا، وبشكل خاص في الولايات المتحدة وأوروبا، وهو أمر مهم ورائع. ولكن وبسبب استمرار حالة الانقسام بين فتح وحماس، وترهّل وتآكل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وتوقف عقلها عن التفكير والإبداع منذ زمن طويل، وتمسكها الصارم بحل الدولتين، كل ذلك أعاق امتداد هذه المبادرات إلى الداخل، هذا فضلا عن انعكاس هذا الانقسام على مؤسسات الخارج وجمهور طرفي الانقسام. وحسب معرفتي القريبة بالكثير من قادة ونشطاء هذه الفصائل، والمثقفين المحسوبين عليهم، فإنهم حتى فترة قريبة لم يكونوا على دراية بما يجري من حراك فكري، خاصة بين أوساط جيل جديد من الأكاديميين، والعديد من الهاربين من هذه الفصائل، هذا الحراك الذي يعيد الصراع إلى جذوره، ويعيد تعريفه وتأطيره، كونه صراعاً كولونيالياً إحلاليآ، بين شعب مستعمَر ومُستعمِر أجنبي، يمتد على طول قرن من الزمان، وليس نزاعاً على حدود بين دولتين.

وفي ضوء هذا التوسع في النقاش والتداول بشأن إحياء الرؤيا التحررية الشاملة، أو الدولة الديمقراطية الواحدة في السنوات القليلة الماضية، ظهرت الحاجة مجدداً، لتأطير هذا التطور الفكري والميداني، في إطار جديد، يبني على ما أنجزته المبادرات السابقة، ويتجنب قصوراتها ونواقصها. فقد بادرنا، كمجموعة كبيرة نسبيا، من المثقفين والنشطاء، الفلسطينيين من على جانبي الخط الأخضر، ويهود إسرائيليين، لعقد لقاءات في مدينة حيفا، وآخر في بريطانيا، ليتمكن فلسطينيون آخرون من المشاركة، واتفق على إصدار وثيقة مبادئ، تكون موجِّهة لهذا الإطار، وتبع ذلك لقاءات عبر تطبيق زوم مع نشطاء ومثقفين بارزين، في قطاع غزة، والضفة الغربية، والدياسبورا، لنشكل إطارا فلسطينيا يهوديا تقدميا، أطلقنا عليه “حملة الدولة الديمقراطية الواحدة”.

لماذا حملة وليست حركة؟

أردنا تمييز أنفسنا عن المبادرات السابقة، التي أُطلق على كل واحدةٍ منها حركة، وبعضها أطلق عليها حركة شعبية. لأن بناء حركة عمل طموح لا يتناسب مع الإمكانيات الحالية، فجميع المبادرات السابقة فشلت في التحول إلى حركة شعبية وحتى إلى تيار فكري منظم، فاعل ومؤثر. لم يكن التواضع في تحديد الهدف، أي حملة وليس حركة، الدافع الأساسي، بل لتكون الحملة إطاراً للمّ شمل كل الحركات والأفراد الذين نشطوا في السابق، وينشطون الآن، من أجل حل الدولة الواحدة، وليشعر جميع هؤلاء أننا فقط نقوم باستئناف المهمة التي بدأوا بها، وأننا ندعوههم للعمل سوية. وقد تحقق حتى الآن جزء من هذا الهدف، رغم صعوبات وعوائق كثيرة تواجهنا، ولكن الأُفق مفتوحٌ لمزيد من التقدم. ذلك أن الواقع المتحول، في فلسطين، فكريا وميدانيا، يفرض رؤيا تحررية شاملة جديدة، وتبعث الثقة بجدوى النضال والمقاومة المشتركة، وتُحيي الأمل بفجرٍ جديدٍ، تُنهي عذابات الشعب الفلسطيني، وتعيد لاجئيه، وتحرره من نظام الأبرتهايد والاستعمار، وتحقق العدالة والمساواة للجميع، بما فيهم اليهود الإسرائيليون، الذين يُستخدمون وقوداً في حروب دموية عبثية، ضد سكان الأرض الأصليين.

لا يعرف الكثيرون في الغرب أن حل الدولة الديمقراطية الواحدة ليس طرحا جديداً، وليس انحرافاً عن إرث الشعب الفلسطيني وحركته التحررية الوطنية، ولا هو ضد اليهود. فالوثائق التاريخية تشير إلى مبادرة مؤسسات إسلامية ومسيحية فلسطينية، أعلنت رفضها للمشروع الصهيوني الاستيطاني العدواني، وطالبت، في عام 1919، السلطات البريطانية في بداية انتدابها باستقلال فلسطين وإعلان دولة ديمقراطية لجميع من يسكن فيها. ولاحقاً، وفى أواخر عشرينيات القرن الماضى، طالبت حركة يهودية صغيرة، هي “بريت شالوم”، مؤلفة من عدد من المثقفين اليهود البارزين، ومنهم رئيس الجامعة العبرية، يهودا ماغنس، بدولة ثنائية القومية، ورفضوا فكرة الدولة اليهودية. كما أن الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، قبل عام 1948، وبعد النكبة، وتبنت هذا الحل رسميا أواخر الستينيات، قبل أن تتراجع عنه لصالح حل الدولتين.

انتفاضة فلسطين من النهر إلى البحر واستعادة الوعي

نسفت انتفاضة “الأمل والكرامة” في شهر أيار الماضي، أو معركة سيف القدس، كما سماها البعض، الأوهام الإسرائيلية بإمكانية اندثار قضية فلسطين، وبموت المقاومة الفلسطينية، بعد أن أماتت إسرائيل حل الدولتين، من خلال تعميق مشروعها الاستيطاني، ومواصلة التطهير العرقي، وإقامة جدران الفصل العنصري، وتعزيز حالة التجزئة، في فلسطين، وتكريس السلطة الفلسطينية وكيلاً للمستعمر. فقد ظنت أنها نجحت بحسم الصراع وتثبيت مشروعها الاستيطاني ومخططها التفتيتي إلى الأبد، وكيّ الوعي الفلسطيني الجماعي، أي الوعي بوحدة الشعب والأرض والمصير، وأنها فرَضَتْ سيطرتها التام على كامل فلسطين دون مقاومة.

كانت الانتفاضة الثالثة الشاملة، التي انطلقت من حي الشيخ جراح وباب العامود، والمسجد الأقصى في القدس، إلى الفلسطينيين داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية، والتي التحقت بها حركة المقاومة حماس، والفصائل الأخرى، من قطاع غزة، المحاصر والمجَوّع، منذ 15 عاماً، قصيرة زمنياً، ولكنها عميقة الأثر. حقاً، لم يتغير شيء على الأرض، إذ لم يُزل جدارٌ واحدٌ، أو حاجز واحد من أصل 150 حاجزا منتشراً في الضفة الغربية، كما أن الحصار الوحشي المفروض على قطاع غزة، ما زال يكتوي بجحيمه مليونا فلسطيني. أما فلسطينو ال 48، الذين فاجئوا الجميع، الإسرائيليين والفلسطينين الآخرين على السواء، بعنفوان هبتهم ومشاركتهم إخوتهم في النضال الشعبي، فلا يزالون يكتوون بنار نظام الأبارتهايد وممارساته الكولونيالية اليومية، فضلا عن أكثر من ألفي معتقل. لكن معارك الشعوب لا تقاس بهذه الاعتبارات، لاأها تراكمية، ويتحقق الانتصار بعد مراحل من التقدم والتراجع والتقدم.

يتمثل هذا الأثر العميق في توليد الوعي بوحدة الشعب والمصير، ووحدة فلسطين، خاصة عند الأجيال الشابة، وطلائعه الواعية التي كانت أساساً مفجر هذه الهبة، والذين انضم إليهم جيش إلكتروني من الشباب الفلسطيني الذي ولد في الدياسبورة، والذي لعب دوراً هاماً في إطلاق الحراكات الشعبية غير المسبوقة من حيث ضخامتها، ونوع شعاراتها. كان الشعار الأبرز، ” فلسطين من البحر إلى النهر”. وهو شعار يدلل على نزوع الجيل الشاب نحو التخلص من إرث أوسلو، ومن وخرافة بناء الدولة تحت نير الاستعمار، وتشكيل وعي تحرري جديد، ورؤية جديدة للصراع. فقد ولد جيل أوسلو، في لُجّة غياب الأمل، وتغلغل الإحباط، وانعدام الأفق، في ظل قيادة فلسطينية منقسمة وعاجزة عن مواجهة الجرائم الإسرائيلية، استدخلت الهزيمة، واختزلت فلسطين بجزء صغير من أراضيها، وفي ظل نظام عالمي ظالم، رأسمالي متوحش، تسيطر عليه نخبة تحكم وتتحكم بالشعوب من خلال شركات ضخمة عابرة للحدود، وفي ظروف انحطاط أنظمة عربية وتقديم خدماتها مباشرة للعدو، مقابل الحفاظ على عروشها، ونشوء تيار عربي متصهين، داخل فلسطين، وفي دول عربية.

لم تكن هذه الانتفاضة مقطوعة عن التاريخ، فهي جزء من سلسلة طويلة من الهبات والانتفاضات الفلسطينية، ضد المشروع الصهيوني العدواني. كما أن تكشف الوعي بوحدة شعب فلسطين وأرضه، وبكون إسرائيل كياناً استعمارياً استيطانياً، أنتج نظام أبرتهايد وحشياً، ليس مفاجئاً تماماً، على الأقل بالنسبة لجموع النشطاء المثقفين، على الأرض، أو للأكاديميين النقديين، الذين يراقبون، منذ سنوات، الوضع بعقل نبيه ومفتوح، متحرر من أيدلوجية أوسلو. إن الحراكات الشعبية المتنوعة، والاجتهادات الفكرية النقدية المتراكمة للحالة الفلسطينية، والتي ترصد تحولات المشروع الصهيوني الخطيرة، في العقدين الماضيين، عبّرت عن تيارات تحتية، كانت تتشكل وتنمو، منتظرةً لحظة الصعود الكاسح إلى السطح، وحين وفّرت إسرائيل هذه اللحظة من خلال الأقدام على تكثيف اعتداءاتها على أحياء القدس، وتهويدها وتهجير أهلها، واجتياحات المستوطنين المتكررة لباحات المسجد الأقصى، بحراسة الجيش، خرجت الى السطح دفعة واحدة، وخطفت تجلياتها الميدانية الشعبية المبهرة، في كل زاوية من فلسطين، أنظارنا، وقلوبنا، ونحن نرى الناس المتعطشة للتحرر والحرية، وللإفلات من القهر والمهانة . فحتى قريتي الصغيرة، لم تهدأ طيلة أيام هذه الإنتفاضة، وأثلج صدري، رؤية المئات من الجيل الشاب، الذين شاركتهم مظاهراتهم الليلية، العارمة.

لقد أكدت هبة أيار، والتي باتت تُعرّف أيضاً بإنتفاضة الوحدة، صحة موقف دعاة الدولة الواحدة، والمتمسكين بوحدة جغرافية فلسطين وبوحدة شعبها، أي سقوط عقلية التقسيم والفصل العنصري. ولذلك نحن نرى أن هذه الهبة، التي وإن قُمعت، فإنها أطلقت زخماً لفكرة الديمقراطية والعدالة والمساوآة، في كيان سياسي واحد، في كل فلسطين، على أنقاض نظام الابرتهايد الكولونيالي الاستيطاني. فما حفرته في وجدان الأجيال الجديدة، وبين أحرار العالم، من وعي جديد، سيظل يتفاعل بصورة تراكمية، وينمو بوتائر متفاوتة، إنتظارآ للحظات قادمة حتمية مواتية. ولا يعني هذا أن المسار الجديد سيكون خطياً، وبدون عوائق وتحديات ومخاطر، أو أننا أقتربنا من تحقيق التحرر، فالطريق لا يزال طويلا ووعراً، وسىيتخلله محطات كثيرة، وهبات شعبية، وعذابات وآلام ومخاضات كبيرة. خاصة وأن النظام الصهيوني، ومعه حلفاؤه، وما يسمى بالمجتمع الدولي، وأنظمة عربية تدور في الفلك الأمريكي، ومتحالفة مع نظام الأبارتهايد الكولونيالي، سارعوا للتدخل لوقف الهبة والحرب العدوانية على غزة، إنقاذاً لسياساتهم ومصالحهم ولتصوراتهم للمنطقة والعالم، وليس لصالح الشعب الفلسطيني، ولا لقيم العدالة. ولكن بفضل هذه الإنتفاضة، وهذه المعركة وما أنتجته من وعي، وما ألحقته من هزيمة أخلاقية بإسرائيل، على الأقل على مستوى المجتمع العالمي. سينضم المزيد من طلائع الشعب الفلسطيني، إلى مسيرة التحرر، وكذلك المزيد من اليهود الاحرار، وأحرار العالم خاصة في مجتمعات الغرب.

ليس الصراع أساساً بين اليهود والفلسطينيين والعرب، كما أنه ليس نزاعاً بين حقين متساويين، أو بين طرفين متساويين، أو على حدود بين دولتين ذات سيادة. إنه صراع كولونيالي إحلالي وحشي، بل إنه قضية شعب يقاوم مخطط غزو خارجي، إحلالي، أنتج نظام فصل عنصريا قاسيا، ونكبة مستمرة ضد هذا الشعب. إن اليهود الذين تم جلبهم إلى فلسطين من أوروبا، هم ضحايا الملاحقات اللاسامية في أوروبا الشرقية والغربية، والوحش النازي، وفي الوقت ذاته هم ضحايا الحركة الصهيونية الأوروبية، والقوى الأستعمارية الغربية. أما جلب اليهود العرب إلى فلسطين ومحو لغتهم وثقافتهم في إطار ما يسمى عملية الصهر الصهيونية، فهم ضحايا الحركة الصهيونية، وأنظمة عربية فاسدة وغبية، سمحت بمغادرتهم أوطانهم. لقد كانت إقامة كيان استعماري أوروبي في فلسطين، بدل حل مشكلة اليهود في أوطانهم وإنهاء السياسات العنصرية ضدهم، من أكبر الجرائم الإنسانية في العصر الحديث، لأنه أدى إلى تدمير شعب وسرقة وطنه، وإلى مأسسة العنف الاستعماري، والفصل العنصري، وسفك الدماء منذ أكثر من مائة عام، وإلى خلق توتر واشتباك دائم مع 400 مليون عربي، يخضعون لأنظمة مستبدة فاشلة معظمها مستفيد من وجود إسرائيل، باعتبارها بوابة للحصول على الحماية الأمريكية، والغربية. ليس هذا فحسب، فإسرائيل جزء عضوي من النظام الرأسمالي الكولونيالي العالمي، وتلعب دوراً إجرامياً ضد شعوب العالم، من خلال تزويد الأنظمة بالسلاح، أو بوسائل المراقبة والتجسس على المعارضين والمناضلين الذين يكافحون من أجل تحقيٍق العدالة في بلادهم. لهذا تحولت إسرائيل، من أكثر الدول كرها في أوساط شعوب العالم، رغم علاقاتها القوية، الاقتصادية والأمنية، على مستوى الحكومات.

لقد سوغت الحركة الصهيونية، غزوها لفلسطين بأنها تريد أن تخلص اليهود من العيش في الجيتو، في أوروبا، ولكنها أقامت في فلسطين، أكبر جيتو في تاريخ اليهود، وإلى أكثر الأمكنة خطرا على حياتهم، والأسوأ أنهم حولتهم إلى جلادين ضد شعبٍ آخر. ومن أجل تعمية أبصارهم وعقولهم عن هذه الحقيقة المرة والمؤلمة، فقد إستخدمت الحركة الصهيوني ولاحقا دولة إسرائيل الاساطير الدينية، في عملية شطف دماغ وتنشئة إجتماعية عنصرية معادية لغير اليهود، لتحصنهم ضد رؤية الحقيقة، ولمنع استعادة وعيهم بكونهم بشراً مثل كل البشر، وليسوا شعباً مختاراً. وتمكنت لفترة طويلة من إسكات وملاحقة الأصوات الناقدة، في الحكومات الامريكية والغربية، واليهود الأمريكيين. غير أن التيار بدأ مؤخرا يسير باتجاه آخر، في الغرب عموما، وفي أمريكا خصوصاً. وأظهرت إستطلاعات حديثة، أن ربع اليهود الأمريكيين، يعتبرون إسرائيل نظام أبارتهايد. وكان لافتاً، في السنوات القليلة الماضية، صدور ثلاثة تقارير عن منظمات دولية وإسرائيلية مستقلة، إضافة إلى تقرير منظمة بتسيلم الإسرائيلية، تُعرّف إسرائيل على هذا النحو، الأمر الذي تصفه الدوائر الرسمية الإسرائيلية، بالتطور الخطير، وذلك لأنه يسحب منها أهمّ سلاح أيدلوجي اعتمدته إسرائيل في تسويق نفسها للغرب، والحصول على دعم سياسي مطلق، ودعم مالي وعسكري، ألا وهو سلاح الديمقراطية. لقد تأكد اليوم، للمراقبين الموضوعيين، وللباحثين الجديين، والمستقلين، أن الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ليس احتلالا مؤقتاً، ولا طارئا، وليست انتهاكات إسرائيل اليومية الفاحشة، من قمع، ومصادرة، واستيطان، وحصار، وجدران فصل، وتطهير عرقي تدريجي، مدفوعة بدوافع أمنية، بل هي جزء بنيوي من منظومة قهر متكاملة واحدة، تأسست بداية عام 1948، وكانت طبقت على الفلسطينيين، حملة المواطنة الإسرائيلية، الذين نجوا من التطهير العرقي، وعلى أقاربهم الذين طردوا من الوطن، وهم الذين لم يلجئوا إلى العنف الثوري، بل اختاروا النضال المدني السلمي، وانصاعوا لقوانين اللعبة السياسية الإسرائيلية.

إننا أمام نظام استيطاني استعماري وفصل عنصري، أكثر وحشية من نظام جنوب أفريقيا، الذي تمت مقاومته محليا، ومحاصرته عالميا، إلى أن سقط تحت أقدام المناضلين السود، وبمساندة أحرار العالم. إننا أمام مشروع استعماري إحلالي، إجرامي، يواصل، ارتكاب الجرائم على مدار اللحظة. وهذا ما ساعد اليقظة العالمية، على مستوى الشعوب، بحقيقة هذا الكيان، العدوانية وغير الإنسانية.

لا خيار أمامنا، نحن الفلسطينيين، داخل فلسطين وفي أماكن اللجوء، واليهود التقدميين (في إسرائيل) سوى خيار النضال المشترك من أجل تحقيق العيش المشترك، على أساس قيم العدالة والمساواة والديمقراطية. لأن الخيار الآخر استمرار الصراع وسفك الدماء لأجيال، لن تكون فيها الغلبة لإسرائيل، في ضوء معطيات التاريخ، ومنطق الصراع، وفي ضوء التحولات العميقة، التدريجية، المستمرة، في مكانة إسرائيل العالمية، وتحديداً في أوساط المجتمع المدني، وفي أوساط يهود أمريكا وبقية دول العالم. هذا ناهيك عن الظهور المتزايد للأصوات النقدية والمناهضة للصهيونية من داخل المجتمع الإسرائيلي، وهروب عشرات آلاف اليهود من إسرائيل للسكن في دول الخارج وحصولهم على جنسيات هذه الدول تحسباً من انهيار المشروع الصهىوني. ورغم طردها نصف الشعب الفلسطيني عام 1948، في إطار محاولاتها للتغلب على “العائق” الديمغرافي وتنفيذ مخططها لتحقيق لإقامة دولة يهودية خالصة، ومنع اللاجئين من العودة، إلا أن نصف السكان في فلسطين حاليا، هم فلسطينيون، وهذا ما سيضع مكانة وسمعة إسرائيل في حالة تآكل مستمر، ولن يكون بالإمكان لحلفاء إسرائيل الاستمرار بعنادهم، ونفاقهم ولا أخلاقيتهم، إلى ما لا نهاية، وسيقفون يوما أمام اللحظة الجنوب أفريقية التي ستصل إسرائيل، كما اضطروا أن يفعلوا تجاه نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا في النصف الثاني من الثمانينات تحت ضغوط مجتمعاتهم المدنية والمنظمات الشعبية، ويتخذوا قرارا بمقاطعة النظام . فالمجتمع العالمي المدني، وخاصة منظماته وشخصياته التقدمية، في حالة احتجاج وثورة دائمة، رافضون للنظام العالمي الراهن، وحيث أن ظاهرة تقاطع النضالات intersectionality أخذة في التوسع والانتشار. ما معناه، أن قضية فلسطين هي قضية ترمز للعدالة بصورة عامة، وأن النظام الرأسمالي الاستعماري العالمي التوسعي، الذي نشأت في رحمه الحركة الصهيونية، في القرن التاسع عشر، وخلق مأساة الشعب الفلسطيني، ما زال قائما ويواصل دوره غير الإنساني، ضد الشعب الفلسطيني، وضد شعوب كثيرة، في الوطن العربي، في أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وآسيا، وشعوب الدول الغربية نفسها، تنوء تحت نير الاستغلال والفقر واللامساواة واللجوء والحروب.

ولهذا يتزايد الإدراك في أوساط المناضلين الفلسطينيين، التقدميين، لأهمية وضرورة استعادة مكانة النضال الفلسطيني، في حركة النضال التحرري التقدمي العالمية، والحركة الناشئة لنضال الشعوب الأصلانية من أجل إنهاء مخلفات حقبة الاستعمار، التي عرفناها منذ أواخر الستينيات، وحتى أواخر التسعينيات التي شهدت انهيار الاتحاد السوفييتي، وانفلات النظام الرأسمالي الأمريكي، وتفكك النظام العربي الرسمي، وتوقيع اتفاقية أوسلو. وقد كان لهذا الاتفاق، الذي خلق الوهم بقرب حل القضية الُلسطينية، الأثر السلبي الأكبرعلى مكانة حركة التحرر الوطني الفلسطينية، حيث تراجعت حركة التضامن العالمية، الشعبية والرسمية، بل إن دولاً كبرى كانت صديقة للشعب الفلسطيني، قلبت مواقفها وأصبحت صديقة لإسرائيل.

ولهذا نحتاج إلى إطارٍ فلسطيني، مسلح برؤية تحررية ديمقراطية، إنسانية، يشارك فيه اليهود التقدميون كحلفاء في النضال والهدف، إطارٌ يحشد الشعب الفلسطيني من خلال استقطاب المجموعات والشخصيات والشرائح المؤمنة بحل الدولة الديمقراطية الواحدة، ويصوغ إستراتيجية مقاومة شعبية، مدنية، في كل فلسطين، وإيجاد الآلية المناسبة للتواصل مع جموع اللاجئين، ومع الشخصيات والأطر الفلسطينية الفاعلة، في أمريكا وأوروبا. كما أن إعادة التواصل والترابط مع حركات التغيير في دول العالم العربي، والتفاعل مع هموم المواطن العربي، ضد الاستبداد والفساد والفقر، والتخلف، ومن أجل حياة كريمة بات واجبا وطنياً وتقدمياً وإنسانياً، وحاجة إستراتيجية.

ليس حل الدولة الواحدة مطروحا للمفاوضات، إذ إن بنية النظام الإسرائيلي الرسمي، خاصة بعد أن بات أكثر يمينية، وأكثر تطرفاً، وينزع نحو الفاشية، يرفض حل الدولتين، ويرفض أي تسوية مهما كانت مهينة. إنّه مشروع نضالي، طويل الأمد، ويحتاج إلى نفَس نضالي طويل، وإلى حكمة بالغة، ومهارة عالية في التواصل والتنظيم، والتخطيط، وإيجاد الأجوبة الصحيحة على كل التحديات والاسـئلة الكبيرة التي تطرح نفسها علينا. لكنه الطريق الوحيد الذي يتماشى مع التاريخ، ومع منطق العدالة، وكرامة الإنسان.