فلسطين المحتلة
يقف الفلسطينيون، خاصةً طلائعهم الحية والمتجددة، هذه الـأيام، كما اعتادوا في السنوات السابقة، في مواجهة ما آلت إليه أحوالهم، وطموحاتهم، بعد 57عاماً منذ إنطلاق الثورة الفلسطينية المجيدة، وبعد عقود من الكفاح والمقاومة والتضحيات الجسام، متأملين ومتسائلين ؛ لماذا لم يحققوا حتى الآن تحررهم من نظام القهر الاستعماري ، وكيف وصل الوضع بقيادتهم إلى اختزال قضيتهم التحررية إلى نزاع حول السيادة على جزء صغير من فلسطين، و القبول بسلطة فاشلة، وعاجزة، وفاسدة، حيث انتهي بها المطاف كوكيل للمستعمر، تلاحق أجهزتها الـأمنية المقاومين والنشطاء لتوفير الحماية له، كثمن موعود لكيان مشوه على جزء صغير من الوطن المغتصب. وكيف انتهى الـامر بأنظمة عربية، كانت إستأنفت دور الاستعمار، إلى مستنقع الخيانة السافر والوقح، من خلال التحالف الامني وتبني الرواية الصهيونية. لم يكن لافواج الناس، والمقاتلين الشباب، الذين التفوا حول الثورة في السنوات الاولى أن يتخيلوا، وفي أسوأ أحلامهم، أن تؤول الامور إلى ما آلت اليه، خاصة منذ أوسلو.
في الأوّل من كانون الثاني عام ١٩٦٥، دشّن إنطلاق الثورة الفلسطينية، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتحت شعارات العودة والتحرير، عصراً ثورياً هادراً مستنهضةً شعب فلسطين المشرد والمشتت، مطلقة طاقاته الجبارة، ومٌشعلة الآمال العريضة بالتخلص من ذلّ وكارثة اللجوء، وبالعودة الى وطن حرٌّ ومستقل. ومثلت تلك الثورة، إستئنافاً لنضال تحرري بدأ مع بدايات غزو المستوطنين الاوربيين الصهاينة، أواخر القرن التاسع عشر، و في الوقت ذاته، نقداً لإخفاقات الحركة الوطنية الفلسطينية وبناها قبل النكبة، وللأنظمة العربية التي فشلت في منع النكبة، وفي تحرير فلسطين. وعزز تلك الآمال العريضة نجاح رعيل الشباب الثوري والفصائل المسلحة في إستلام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٦٨. وكانت أولى ثمار هذا التجديد معركة الكرامة البطولية ضد القوات الإسرائيلية، على الحدود الأردنية، بعد عامٍ واحدٍ من هزيمة الانظمة العربية المدوية، وهي المعركة التي أحيت روح المقاومة والتحدي، بعد تلك الهزيمة العربية النكراء . لقد شكلت معركة الكرامة حدثاً مفصلياً في مسيرة الشعب الفلسطيني الكفاحية، إذْ تسارع نمو وصعود نجم المقاومة وحركة التحرر الفلسطينية، التي باتت جزء مميزاً من طليعة حركة التحرر العربية والعالمية، كما فرضت نفسها على النظام العربي الرسمي، ومنظمة الامم المتحدة التي اعترفت بها ممثلا شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وبتأثير هذا الصعود ، توالى التحاق وانخراط آلاف بل عشرات آلاف الشباب الفلسطيني في صفوف الثورة الصاعدة.
فما الذي مكّن القيادة الفلسطينية الشابة آنذاك من إستنهاض شعب فلسطين من رماد النكبة والتشرد ، وصنع وحدته الوطنيه غير المسبوقة، وشحذ عزيمته الفولاذية. إنه امتلاك إرادة القتال والاستعداد العالي للتضحية، والوضوح في الرؤية، والوضوح في الهدف، وبناء أداة التحرير، أي منظمة التحريرالفلسطينية، التي تحولت إلى الكيان السياسي المعنوي الجامع لعموم شعب فلسطين. لم يكن لهذه الانجازات أن تتحقق بدون اعتماد مشرع وحدوي مُلهم، يخاطب حقوق كل تجمعات الشعب الفلسطيني ؛ التحرير والعودة ، وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية على كل فلسطين.
لقد عبرت تلك الشعارات عن الحقيقة التاريخية، وعن كون فلسطين وشعبها جزءاً من الوطن العربي، وعن القيم الانسانية الكونية كالعدالة والتحرر والحرية، إذ أن النضال الفلسطيني عنى موضوعياً مقاومة القوى الاستعمارية والرأسمالية الكبرى، كون إسرائيل وليدة هذه القوى ومُكوّن من مكونات هذا النظام المتوحش الذي يواصل استغلال شعوب العالم، ويشن الحروب عليها . ولذلك، كان طبيعياً أن تتحول فلسطين إلى رمز للإضطهاد والاستغلال، ليس على المستوى العربي فحسب، بل أيضاً على المستوى العالمي، والاهم إلى رمزٍ للنزعة الإنسانية في مقاومة الظلم، وللكفاح، وجزء من الجبهة الإنسانية في النضال من أجل إزالة الظلم والاستغلال والسيطرة.
ولكن تلك المرحلة لم تَطُلْ، إذ خضعت قيادة منظمة التحرير لضغوط دولية، وعربية رسمية، للتخلي عن أهداف المنظمة، وإستبدالها بدولة في الضفة والقطاع. ومع أن المنظمة صاغت هذا التراجع بعبارة” إقامة سلطة وطنية على كل منطقة فلسطينية يتم تحريرها” إلا أن “هذه الواقعية السياسية” غير المدروسة زرعت بذور المسلسل التنازلي الذي أوصل القيادة الى اتفاقية هي أدنى من حل الدولة المرحلية او الدولتين، ألا وهو إتفاق اوسلو التفريطي الكارثي. ويمكن القول أن اليسار الفلسطيني، الذي كان له تأثير سياسي وفكري وثقافي كبير داخل الثورة، على خلاف ما هو عليه اليوم، تمكن في حينه من إبطاء أو فرملة نهج القيادة الفتحاوية في الانغماس في هذا المسلسل. غير أن هذا اليسار، في غالبيته، تكيّف لاحقاً مع واقع أوسلو، وبات هامشياً، رغم اعتراضه اللفظي، وذلك من خلال مواصلة الاندماج في مؤسسات المنظمة التي وقعت على اتفاقية اوسلو، التي اعترفت باسرائيل دون التزام الاخيرة بالاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، والاعتراف بالمسؤولية عن النكبة، وحق اللاجئين بالعودة والتعويض.
تعيش الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم أزمة خانقة، وحالة إنحطاط شديد غير مسبوقة ، وذلك لعوامل خارجية وذاتية، وتتمثل في عجزها عن إنهاء الانقسام الكارثي، وعن استعادة المشروع التحرري الملهم، ليُعيد توحيد الشعب الفلسطيني، ويُطلق استراتيجية مقاومة حقيقية. كما ونتيجة ذلك لحق بالمجتمع الفلسطيني، تشوهات إجتماعية وأخلاقية خطيرة، وضعف التضامن الداخلي وشيوع الفردانية، التي تشكل عقبة أمام احياء شامل لروح النضال، بدل أن تتحمل ذلك فئات محدودة وحدها عبء التصدي لجرائم المستعمر. انها غير قادرة على الخروج من فخ أوسلو الذي حول مؤسسات الحركة الوطنية إلى هياكل فاسدة ومترهلة، ومرهونة لإرادة المستعمِر، ولالتزامات الدول المانحة، يحكمها اوليغاركية سلطوية، فاسدة متحللة من قيم التحرر النبيلة، وهي ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ العمل السياسي الفلسطيني.
كما لم يسعف الشعب الفلسطيني ذلك الصمود الفلسطيني المذهل في قطاع غزة في مواجهة المستعمر وحروبه الدموية، وحصاره الوحشي، في الخروج من هذه الأزمة. فحركة حماس، التي تتعرض لحصار خانق، غير قادرة على الخروج من فخ ازدواجية السلطة والمقاومة، التي وقعت فيها، وفشلت في تقديم بديل وطني تحرري شامل، وزاد من أزمتها أنها عدّلت برنامجها السياسي ليتكيف مع فكرة الدولتين، بفعل الضغوط الخارجية بدل تطويره إلى دولة ديمقراطية مدنية تعددية، عادلة، حديثة كبديل عن “الدولة الاسلامية”. ولذلك ظهرت وكأنها تسير في مسار الانحدار السياسي الذي أودى بحركة فتح الى الحالة التي تعيشها حاليا.
لكن هناك بديل ووجه آخر للشعب الفلسطينيي يكمن في تجدد روح المقاومة.
ليس ما ذُكر آنفاً هو الوجه الوحيد للمشهد الفلسطيني. فعلى الرغم من كل تلك العراقيل ومظاهر الخراب، وتوحش المستعمِر، يكشف شعبنا كل مرة عن أصالته وقدرته على تجديد روح المقاومة، وابتكار أدوات ولغة فعالة في التعبير عن رغبته في التحرر . ففي العقد الاخير ، انبثقت وتنبثق أطرٌ و مبادرات شعبية عديدة من خارج هياكل السلطتين، تنحو نحو إستعادة فكرة فلسطين الواحدة والقيم التحررية. فمنذ عام ٢٠٠٩، تفجرت عدة هبات شعبية موضعية في القدس ومحيطها، وفي داخل الخط الأخضر، في مواجهة خطة برافر الاقتلاعية، وغيرها، والتي تُوّجت في آيار الماضي بهبة “الأمل والكرامة”، هبة فلسطين من البحر إلى النهر، والتي كانت بمثابة زلزال، من حيث عنصر المفاجأة، و الصدمة التي تلقاها العدو، وهي الهبة التي اطلقها الجيل الفلسطيني الجديد، متجاوزاً القيادات التقليدية، المتخلفة عن مسيرة الشعب.
كل ذلك يعبر عن قدرة هذا الشعب على إجتراح خياراته وإطلاق إرادته، و الأهم عدم استعداده لانتظار انتهاء الإنقسام الكارثي، ومسدداً ضرباته لمراهنات العدو، وأوهامه بامكانية إماتة قضية فلسطين، و إخفاء اوجاع شعبها من الوجود. ومن هذه المبادرات تلك التي تدعو وتعمل على إستعادة المشروع التحرري الفلسطيني الاصلي؛ الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين الإنتدابية.
لقد قتلت إسرائيل حل الدولتين، وهو في الأصل حلٌ ظالمٌ ويقوم على التقسيم الاستعماري ويتنكر للمأساة الفلسطينية، وينفي حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. كما قامت بإغلاق الباب نهائياً أمام مطالب كل التجمعات الفلسطينية، حق اللاجئين بالعودة، وحق فلسطيني ال ٤٨ بالمساواة الكاملة، حيث تجسد هذا الموقف الإسرائيلي بقانون العودة الذي اعتبر كل فلسطين حقاً حصرياً لليهود، ورفض فكرة الدولة المستقلة في الضفة والقطاع. ليس هذا فحسب، بل تواصل مخططاتها في السرقة، والقتل، والتنكيل، و تمزيق مجتمعاتنا، عبر نشر العنف الداخلي، الذي تعزز بفعل سياسات الافقار ، إلى جانب مخططات الإحتواء والترويض وتحويل أطر سياسية فلسطينية، تمثيلية إلى جزء من حكومة الابرتهايد المجرمة، كما هو الحال داخل الخط الاخضر، والى وكيل لحماية امن المستعمر كما هو الحال مع سلطة اوسلو.
ليس هذا قدراً، بل فعلاً بشرياً إجرامياً يمكن مواجهته والحاق الهزيمة به. ليس أي ميزان قوى أبدياً، ولا يُمكن أن يكبح إرادة أي شعب واقع تحت نظام قهري، من المواجهة، والاصرار على الانتصار. وبفعل تعاظم عدوانية إسرائيل، و وضوح الطابع الاجرامي لمشروعها الاحلالي المناهض للقيم الكونية، ولقوانين منظمة الامم المتحدة، تتولد ديناميات ونتائج غير متوقعة، تتمثل في ولادة نقائض لمشروعها، أي رد فعل غير متوقع من الضحية. فها هو الشعب الفلسطيني، من خلال طلائعه المتجددة، يستعيد رويداً رويداً روحه النضالية العالية، وها هو العالم، خاصة شعوبه وحركاته المدنية، تمضي في تجريد إسرائيل من زيف إدعاءاتها، و تسحب بالتدريج الشرعية عن نظامها العنصري. لقد تكرس ذلك خاصة، بالتقارير الدولية الهامة الصادرة مؤخراً والتي تعيد تعريف إسرائيل كنظام أبارتهايد واستعمار إستيطاني.
على خلفية ذلك كله، ينمو الوعي الوطني الشعبي باطراد، وتظهر تباعا أفواج من الجيل الجديد، مستعدة للتحدي وامتلاك الارادة، والمقدرة على التحديد والابتكار، وتجاوز القيادات التقليدية، بيمينها الفاسد، ويسارها المتجمد والمنحسر، والمرشحة لأن تسترد الثورة، و تتحول في مرحلة قادمة إلى قيادة حركة وطنية شعبية متجددة، حديثة، تجيد إدارة الصراع، ولغة العصر، والممارسة التنظيمية الفعالة، وتحمل راية التحرير والعودة، وإقامة الدولة الديمقراطية في عموم الوطن.
وهذا كله يحتاج إلى العمل المتواصل، والإرادة الصلبة، والجهد التخطيطي السليم، والتحلي بنفس طويل، وروح التضحية بالوقت والعمل والراحة والمال. إنها ثورة مستمرة حتى إزالة نظام الاستعمار.
فلسطين المحتلة
۳١ كانون الأول ٢٠٢١