هل يوجد تضارب بين عمليّة إعادة بناء المشروع الفلسطينيّ التّحرّريّ وتبنّي حلّ الدّولة الدّيمقراطيّة الواحدة؟ هل هذا الحلّ يُفرّق أم يُجمّع؟ هل يُكسب حلفاء جدداً أم يُنقصهم؟. هل يُقرّبهم أم يُبعدهم؟ هل الميثاق الوطنيّ الفلسطيني، ولاحقاً قرار المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ بتبنّي حلّ الدّولة الديمقراطيّة العلمانيّة، أو غير الطّائفيّة، الواحدة، عام 1971، فرّق الشّعب الفلسطينيّ والحركة الوطنيّة أم جمّعها؟ هل أعاق النّضال التّحرّريّ أم منحه زخماً إضافياً، وهل هو طرح واقعي أم محض خيال؟ أليس شعار “من البحر إلى النهر”، الذي انتقل من الثورة المتجدّدة داخل فلسطين إلى مظاهراتِ التضامن العالميّة، تعبيراً عن عودةِ الوعي بفلسطين الواحدة، أرضاً، وشعباً وقضيةً، وعن تحوّل نحو قبول حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة؟. هل بعد حرب الإبادة في غزّة، وتسارع التطهير العرقي والضمِّ في الضفة الغربية والقدس، وداخل الخط الأخضر، وتكشّف دموّية النظام الصهيوني، والمجتمع الاستيطاني، يظلّ هذا الحل صالحاً؟ أي هل تبقّى أيّ فرصة أو إمكانيّة للعيش المشترك مع تجمّع يهودي إسرائيلي استيطاني شديد العدوانية والتعطّش لاستئصال الوجود الفلسطيني، في فلسطين المستقبل المنزوعة من الكولونياليّة ومنظوماتِ الاستعمار والقتل والنهب والتمييز، كما يتساءل الكثيرون، بمن فيهم بعض من يحمل فكرة حل الدولة الواحدة منذ عشرات السنين! أم أنّ حلم التحرّر، تحرّر الفلسطينيين من نظام الاستعمار الإبادي، وتحرّر اليهود من الصهيونية وعقليّة التفوّق، يظلّ أقوى من كلّ ذلك، وأنّه لا بديل عن متابعة هذا الحلم الإنساني، لأنه لا يُعقل أن تترك ماكينة القتل لتواصل الفتك بالناس إلى ما لا نهاية، من دون قوّة أو هيئة فلسطينية موحَّدة ومُوجِّهة، وذات رؤية تحرّرية وطنيّة وإنسانيّة واضحة المعالم.
هذه جزءٌ من أسئلة، وتساؤلات، بعضها قديمٌ، وبعضها مستجدٌ، عادتْ إلى قلبِ النقاش المتجدّد حول كيفيّة الخروج من حالة الانسداد السياسي داخل الساحة الفلسطينية، وعلى مستوى الحلّ المنشود للصراع الكولونيالي المشتعل في فلسطين والمنطقة.
يعتقد بعضهم أنّ الانشغال، في ظلّ الوضع الراهن، بالحلول السياسية مسألة فكرية لا أكثر، بل يعتقدون أنّها تعيق عملية التحرير أو التقدّم نحو الوحدة الوطنية
تعتقد شريحةٌ مهمة من الذين يحملون الهمّ الفلسطيني العام، والمنخرطون في مبادراتٍ لتحرير الحالة السياسيّة الفلسطينيّة من محنة الانقسام والجمود والتعثّر، وإعادتها الى المسار التحرّري، أنّ الانشغال، في ظلّ الوضع الراهن، بالحلول السياسية مسألة فكرية لا أكثر، بل يعتقدون أنّها تعيق عملية التحرير أو التقدّم نحو الوحدة الوطنية. وهو قولٌ، أو جدلٌ، لم ينشأ بسبب حرب الإبادة الصهيونية في غزّة، بل قبلها بكثير.
وقد عاصرتُ هذا النقاش، وانخرطتُ فيه، منذ أكثر من عقدين بعد أن أعادت مجموعة من الأكاديميين والمثقفين والنشطاء الفلسطينيين النقديين، من الداخل والشتات، طرح مشروع حل الدولة الديمقراطية الواحدة. وكان لافتاً، أنّ تلك الشريحة، ومع تقدّم النقاش حول استعادة حلّ الدولة الواحدة، وبعد أن تأكّد سقوط وهم “حل الدولتين”، الظالم، وتشرذم الحركة الوطنيّة الفلسطينية وتبدّد رؤيتها التحرّرية، طوّرت هذه النخبة في مجرى النقاش غير المنظّم، صيغة تجميعية، وكفاحية، تسبق الوصول إلى الحلول السياسية. صيغة لا تطرح الحلول بل تدعو إلى بناء التفافٍ شعبيٍّ حول وحدة القضيّة، وحول استراتيجية كفاحية مُتفق عليها، في مواجهة الاحتلال والاستيطان في الضفة الغربية، وحقِّ عودة اللاجئين، وتحقيق المساواة الكاملة لفلسطينيي الـ 48، بعد تفكيك يهوديّة الدولة، والتحوّل في الموقف من حلِّ الدولتين التقسيمي الظالم، إلى وحدة الشعب والأرض والقضية. وكان حزب التجمّع الوطني الديمقراطي، الذي تأسّس داخل المنطقة المحتلة عام 1948، بعيد توقيع اتفاق أوسلو التصفوي، قد بلور هذه الشعارات في برنامجه السياسي، مواصلاً تحدّي البنية اليهودية الصهيونية من داخل الكيان، وعبر توظيف المواطنة المفروضة على هذا الجزء من شعب فلسطين، بهدف إبقاء شعلة مناهضة الصهيونية، والحفاظ على الهوية الوطنية والقومية. ولكن حزب التجمّع، يواجه هذا التحدي المتمثل في كيفية الارتقاء بالعلاقة المباشرة مع المشروع التحرّري الفلسطيني.
حلّ الدولة الواحدة، باعتباره مشروعاً تحرّرياً، هو حاجة ومصلحة فلسطينية أساساً
يُذكر أن هذه الشعارات تحوّلت لاحقاً إلى شعارات حركة المقاطعة الوطنية التي أطلقتها منظمات المجتمع المدني الفلسطيني، من رام الله، عام 2004، وهي الحركة الرائدة في شن حملة المقاطعة الفاعلة ضدّ إسرائيل.
أيضاً، هناك من بين هؤلاء الأخوة والأخوات، وليس جميعهم، من يعتقد أنّه ليست مهمّة الفلسطيني، أو الحركة الوطنية الفلسطينية، أن تنشغل بإيجاد حلولٍ للجلّاد، وهو قول يُردّ عليه أولاً، بأنّ حلّ الدولة الواحدة، باعتباره مشروعاً تحرّرياً، هو حاجة ومصلحة فلسطينية أساساً، وثانياً، لا تستطيع الحركة الوطنية الفلسطينية تجاهل الوجود الديمغرافي اليهودي الإسرائيلي، وكيفية التعامل معه، أثناء عملية التحرّر، وبعد هزيمة الصهيونية وتحقيق كيان ديمقراطي جديد. ومع أنّ التعامل مع العلاقة مع الوجود اليهودي الإسرائيلي في فلسطين المستقبل، بات يُفجّر حساسيات ونفوراً في أوساط الشعب الفلسطيني، أكثر من أيّ وقت سابق، بعد أن شهدنا وقوف الأغلبيّة الساحقة للمجتمع الاستيطاني خلف حرب الإبادة، فإنّ مسألة الوجود اليهودي الإسرائيلي في فلسطين ستظل أحد التحديات المطروحة أمام الحركة الوطنية، المتجدّدة، ولن تستطيع القفز عنها، خاصة أنّ هذه الجولة الدموية من الصراع مع المستعمر، رغم الصمود الأسطوري للمقاومة والشعب الفلسطيني، أظهرت أنّ الصراع مع هذا المستعمر المتوحش طويل ومؤلم للغاية، ولا يصح البناء على سيناريو إنهاء الصراع بالضربة القاضية. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ دعاة حل الدولة الديمقراطية الواحدة، لا يعتبرون شكل العلاقة المستقبلية مع الوجود اليهودي، ذا أهمية أخلاقية، فحسب، بل ذا أهمية تكتيكية واستراتيجية كذلك، وهو أمرٌ يندُر أن يلتفت إليه المتحفظون تجاه هذا الحل التحرّري الديمقراطي.
التوافق والاختلاف
عاد هذا النقاش والجدل أخيراً، في إطار السعي المتجدّد إلى إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، واستعادة مشروعها التحرّري، من خلال عقد مؤتمر وطني فلسطيني، وتوليد قيادة وطنية جديدة، متحرّرة، تستطيع أن تسدَّ الفراغ السياسي، وتمنع إجهاض مكتسبات الصمود الفلسطيني الغزّي والعام، وتستثمر في ما حققه هذا الصمود، وفي ما سببته الهمجيّة الصهيونية من عزلة ونبذ لإسرائيل عالمياً، على المستوى الشعبي خاصة، لمصلحة عملية التحرّر. وقد توافق المبادرون إلى هذا المؤتمر على ضرورة تجميد النقاش حول الحلول، وإبقائه خارج المبادرة، لضمان نجاح هذه المبادرة الجديدة، التي هي حصيلة مبادرات عديدة، كان أحدثها تلك التي خرجت بنداء من الدوحة نهاية شهر فبراير/شباط، والتي ولدت زخماً جديداً للفكرة. ويذكر أنّ كثيرين من المبادرين يتبنون حل الدولة الديمقراطية الواحدة حلاً منطقيّاً وعادلاً لقضيّة فلسطين. وسبقت هذه المبادرة الأحدث، مجموعات الدولة الواحدة، ومؤتمر فلسطينيي الخارج، وملتقى فلسطين، و”المؤتمر الشعبي – 14 مليون”، والتي جميعها تنخرط حالياً في حوار مشترك وتعاون وثيق، للتوصل إلى توافق، وإلى تجسير الاختلافات.
مسألة الوجود اليهودي الإسرائيلي في فلسطين ستظلّ أحد التحدّيات المطروحة أمام الحركة الوطنية، المتجدّدة، ولن تستطيع القفز عنها
وفي إطار هذا الحراك الفلسطيني المهم، أريد أن أحاجج بأنّ حل الدولة الديمقراطية الواحدة بين البحر والنهر، ليس عبئاً على عملية التحرّر، ولا عائقاً أمام الوحدة الوطنية، بل هو ذخرٌ استراتيجي ذو أهمية بالغة في مسيرة التحرّر. وسأحاول تقديم البراهين المنطقية، والنظرية، التي تدعم أهمية تصوّر الحل النهائي للصراع الكولونيالي في فلسطين، بإقامة الدولة الديمقراطية العادلة الواحدة، التي لا أرى فيها، أسوة بالكثيرين من المنادين بحلّ الدولة الواحدة، مسألة فكرية تجريدية، بل ذات أهمية استراتيجية وتكتيكية وعملياتية. وأدعي أنّ حل الدولة الديمقراطية الواحدة هو ذخيرة فاعلة ومؤثرة وذات وزن كبير في عملية التحرير، وليس عبئاً عليها كما يُوحي الجدل الذي يدور حول هذه المسألة. علاوة على ذلك، فإنه يمثّل استرداداً لإرث حركة التحرّر الوطني الفلسطيني. ومن الأهمية بمكان التوضيح، أو تأكيد أنّه على خلاف ما يُخيّل للبعض، فإنّ حل الدولة الواحدة، ليس مجرّد طرح أو عرض لنوع من الحلول لقضية الصراع الكولونيالي في فلسطين والمنطقة العربية، بل هو مشروع تحرّري كفاحي، بل سيرورة، تُستنهض خلالها كلّ مقومات القوّة والبناء والتحشيد، داخلياً وخارجياً، الكامنة والفعلية، في فلسطين، والوطن العربي، والعالم. إنّ نزع الكولونيالية عمليةٌ عسيرةٌ وطويلة، وتستمرُّ بعد دحر نظام الأبارتهايد الاستعماري الاستيطاني، من أجل تفكيك جميع منظومات الهيمنة، ومخلفاته الكولونيالية، المُعيقة لبناء مجتمع سياسي مدني جديد، مساواتي، يشمل جميع المواطنين بغضّ النظر عن خلفياتهم الدينية أو الإثنية أو المذهبية، أو اللغوية. وجب توضيح هذه المسألة للتخلّص من عملية التبسيط لمشروع الدولة الواحدة الذي يعلق بأذهان بعضهم، من دون قصد أو من دون انتباه، أو من دون بذل الجهد للتعمّق في الفكرة/المشروع.
عناصر قوّة حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة
أولاً: هذا الحلّ الشامل هو حلّ أخلاقي كونه مشروعاً تحرّرياً لشعبٍ تعرّض لغزوٍ خارجي، همجي، طُرد نصفه خارج الوطن الذي حُوّل إلى بلدٍ أوروبي يحكمه نظام عنصري، معاد ومتوحش. وإسهاباً في هذه المسألة، يجب التذكير بأنّ كفاحَ المستعمَر ضدَ المستعمِر، ونُشدان الحرية، هو فعل إنساني، وواجب أخلاقي، يهدف إلى تحرير الناس وإطلاق طاقاتهم لتشييد مجتمع إنساني طبيعي. وفي العلاقة مع السياق الأخلاقي، يطرح هذا الحل حلاً إنسانياً للتجمّع الاستيطاني اليهودي الإسرائيلي، بديلاً عن مشروعهم الإحلالي العنصري غير الأخلاقي وغير الإنساني، أي قبول أفراده مواطنين متساوين، باعتبارهم أيضاً ضحايا شطف دماغ حركة استعمارية متوحّشة. ويعني نزع الكولونيالية عن المجتمع الاستيطاني وتحرير أفراده من الصهيونية باعتبارها أيديولوجية، تناهض المساواة، ومتوحشة، يعني التخلّص من قدرتهم على مواصلة إيقاع الأذى المدمّر بالشعب الفلسطيني. وتتحقّق هذه المواطنة المتساوية بعد تفكيك وهدم نظام السيطرة والامتيازات الكولونيالية. ليس هذا الخطاب الإنساني الأخلاقي موجّهاً إلى النخب الغربيّة الحاكمة الكولونيالية غير الأخلاقية فحسب، بل أساساً إلى الشعوب التي تدعم نضال شعبنا، من منطلقات إنسانية أخلاقية كونية. أي أن هذا الخطاب يتناغم ويتشابك مع خطاب تلك الشعوب، وحركاتها، التقدمية، ومع خطاب ومبادئ منظمات حقوق الإنسان الدولية التي سبق أن أصدرت تقارير مهمة تُعيد تعريف الكيان الصهيوني بكونه كيان أبارتهايد، ويُمارس الجرائم ضدّ الإنسانية. تطوير وترسيخ هذا الرباط مع الحركة الكونيّة التحرّرية، يشكّل أحد مساري معركة التحرّر الفلسطيني الأساسيين (المسارات: الشعبي الداخلي والشعبي والرسمي الخارجي)، كما كان الحال مع الجبهة الكفاحية العالمية مع حركة المقاومة في جنوب أفريقيا. وهذا يشير إلى قوّة الاستقطاب الكامنة في هذا الخطاب التحرّري الإنساني، والذي يلعب دوراً مهماً في تشكيل أوسع جبهة عالمية نضالية تضغط على النخب الحاكمة وتضعف تماسكها وتزعزع قواعدها الانتخابية ممّا يفتح الفضاء العام للتحوّل النهائي.
ثانياً: هذا الحل هو نقيض التجزئة والتقسيم، الجغرافي والديمغرافي والسياسي، ويقوم منطقه على وحدة الشعب الفلسطيني، من خلال استعادة وتوطيد الوعي الوطني بفلسطين التاريخية، إذ يعيد الصراع إلى أصوله التاريخية وطبيعته الكولونيالية ويسقط الأوهام حول إمكانيّة التعايش مع الصهيونية وجوهرها الوحشي، كما يُنصف جميع تجمعات الشعب الفلسطيني، ولا يترك أحداً خارج عملية التحرير، لا من حيث الدور والمساهمة المباشرة وغير المباشرة، ولا من حيث الحقوق، التي سيحصل عليها الجميع دون تمييز أو إهمال. إنّ استمرار التعلّق بوهم حلِّ الدولتين، ينطوي على إدامة الاستعمار وترسخه، وعلى مواصلة تكبّد الألم والخسائر الفادحة، في الأرض والناس.
لقد قاد التخلّي عن المشروع الوطني التحرّري، وتقويض منظمّة التحرير الفلسطينية، التي حملت هذا المشروع وقادته، ووحّدت الشعب في كل أماكن وجوده، إلى حالةِ الانقسام الحالية، وإلى توطيد المشروع الكولونيالي الإجرامي، ولذلك فإنّ استعادة هذا المشروع التحرّري وتخليص أداة التحرير والتمثيل من القيادة الحالية، من شأنه أن يعيد وحدة الشعب الفلسطيني، ويطلق كامل طاقاته نحو المستقبل.
استمرار التعلّق بوهم حلِّ الدولتين، ينطوي على إدامة الاستعمار وترسخه، وعلى مواصلة تكبّد الألم والخسائر الفادحة، في الأرض والناس
ثالثاً: يشكّل تبني حل الدولة الديمقراطية الواحدة إحياءً واستعادةً لإرثِ حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، ولطبيعة النضال بكونه نضالاً ذا طبيعة كولونيالية، وتحديثه وعصرنته، وتعميق بعده القيمي الإنساني، أي أنّ تبنّي هذا الحل ليس انحرافاً عن الإرث الوطني التحرّري، كما يدّعي أنصار حلّ الدولتين، بل هو استمرار له، لما يشكله من وضوحٍ في الرؤية، وما يختزنه من مكوّنات للوحدة الوطنيّة، التي مزّقها الخضوع للضغوط الدولية ومشاريعها التسوَويّة التصفويّة.
رابعاً: يُعيد تبني حل الدولة الواحدة وضوح الهدف والرؤية إلى المشروع الوطني الفلسطيني، ويولّد خطاب أمل، ويبعث الثقة في صفوف الأجيال الجديدة في المستقبل، لأنّه يستعيد أهم مصادر قوة الشعب الفلسطيني، التي لا يمكن الانتصار بدونها، ألا وهي الوحدة. وحدة الكل الفلسطيني، وحدة كلّ الطاقات الفلسطينيّة.
تجارب تحرّرية تؤكد أهمية تبنّي الهدف السياسي النهائي
دعونا نستحضر أمثلة من التاريخ القريب، لنكتشف أن بعض حركات التحرّر، لم ترَ في طرح الحلول عائقاً للتحرر والوحدة، بل كان عاملاً مساعداً و مجنداً، فحزب المؤتمر الوطني الأفريقي وضع ميثاقاً مفصلاً مطولاً، المعروف بـ”ميثاق الحرية “، عام 1965، تبنّى فيه دولة واحدة ديمقراطية، معبراً عنها في شعار “شخص واحد، صوت واحد”، مؤكداً استعداد السود، السكان الأصليين، للعيش بمساواة أمام القانون مع أحفاد المستوطنين بعد تخليهم عن نظام الأبرتهايد. وثابر حزب المؤتمر على التمسك بمبادئه وتصوره لمستقبل جنوب أفريقيا وقبل أن تتحرّر، وقد ألهب فيه خيال الناس وأحرار العالم، وبتأثير هذا التصور التحرري الإنساني، انطلقت حركة عالمية مناهضة للأبارتهايد. صاغ المؤتمر هذه الرؤية، ومضمون الحل النهائي، وواصل النضال بكل أشكاله تحت سقف هذا الشعار الجامع. فهل تحديد الحل النهائي كان عائقاً أمام التحرر وتفكيك نظام الفصل العنصري، أم مساعداً لعملية التحرّر السياسي في جنوب أفريقيا؟ الجواب واضح، سقط الأبرتهايد السياسي، واستلم السود الحكم، من خلال انتخابات ديمقراطية، ويتواصل النضال الاجتماعي لإنهاء الأبارتهايد الاقتصادي وتضييق الفجوات الاقتصادية، وضد الفساد الذي استشرى في نظام الحكم، بدون حروب داخلية دموية، وقمع جماعي وسجون وغيرها.
ولنأخذ الحركة الوطنية الفلسطينية مثالاً آخر. ففي الستينيات وجدت الحركة الوطنية، من خلال منظمّة التحرير، الحاجة لتحديد الحل النهائي؛ دولة ديمقراطية واحدة، ليس بديلاً لشعار التحرير والعودة الذي بدأت فيه الحركة مسيرتها عند تجددها، بل إضافة له، وذلك بعد أن توصلت إلى نتيجة مفادها بأن هذا الحل أو المشروع التحرري الإنساني يساعدها على توسيع تحالفاتها الدولية، خاصة في مجتمعات الغرب، خالق إسرائيل وحاميها. فهل توقف أو تعثر النضال؟ ألم يتواصل النضال بكل الأشكال بعد تبني الدولة الديمقراطية الواحدة؟ ولكن بعد التخلي عن هذا الحل بعد أقل من ثلاث سنوات، وبعد تبني حل الدولتين عام 1988، وبعد أن تدحرج هذا الحل إلى نموذج البانتوستان المستورد من نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، تبددت جبهة الحلفاء، ليس فقط في الغرب والشمال فقط، بل في الشرق والجنوب أيضاً. لقد كاد هذا المسار الانحرافي أن يجهز على إرث الحركة الوطنية الأصيل، ويشوّه المنطق الفكري والأخلاقي للصراع، من خلال التخلي عن طبيعته صراعاً ذا طبيعة كولونيالية، وتحويله ؟إلى صراع قومي، أي كأن الصراع القائم هو بين قوميتين متساويتين ولهما الحقّ نفسه؛ جماعة قومية فلسطينية أصيلة وقومية يهودية مختلقة، وكولونيالية. ولم تستعد حركة التضامن العالمية مع قضية فلسطين عافيتها إلا بعد تبيّن نيات إسرائيل الحقيقية ومواصلة مشروعها الكولونيالي الذي أدى إلى انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وإقدامها على إعادة احتلال مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني. وعلى خلفية ذلك كله، وبسبب ترويض السلطة الفلسطينية التي قامت على قاعدة عقيدة الجنرال الأميركي دايتون، عقيدة حماية أمن الاحتلال، تشكلت حركة المقاطعة التي تلعب دوراً مدنياً محورياً في النضال الفلسطيني، على المستوى العالمي. كما نمت وتصاعدت المقاومة الشعبية في القدس، والضفة والقطاع، ونشأت حركة مقاومة عسكرية داخل قطاع غزّة المحاصر، كل ذلك ولّد تحولاً جذرياً في مفهوم الصراع، وساهم في توليد وعي، خاصة في صفوف الأجيال الفلسطينية الجديدة، ينحو إلى مواجهة المشروع الصهيوني الكولونيالي الممتد على كل فلسطين، بمشروع وطني تحرري بين البحر والنهر.
لا نريد دولة يعاد فيها إنتاج نظام عربي، وراثي، جمهوري أو ملكي، مستبد وفاسد وتابع وفاشل
ومثال ثالث، من داخل المنطقة المحتلة عام 1948. في أواخر السبعينيات، صعدت حركة وطنية جديدة، دعت إلى التشديد على الهوية الفلسطينية لفلسطينيي الـ 48، في مواجهة الأسرلة، وطرحت نفسها جزءاً من الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، هي حركة أبناء البلد. ظهرت أولاً في مدينة أم الفحم، بمبادرة من عدد من الشباب القومي التقدمي، ثم انتشرت بصورة سريعة بين الطلاب الفلسطينيين، في كامل الجامعات الإسرائيلية، وخاضت نضالات ومواجهات مع أذرع المؤسّسة الإسرائيلية الأمنية، وإدارات الجامعات، ومن ثم انتشرت في عدد محدود من البلدات العربية، وأقامت النوادي الثقافية، والمخيّمات الصيفية، وروضات الاطفال. تبنت الحركة ذات التوجّهات اليسارية والقومية، خطاب منظّمة التحرير، وميثاقها الوطني الذي ينادي بتحرير فلسطين وإقامة الدولة الديمقراطية في فلسطين الانتدابية، وبضمنه الخطاب الأنتي كولونيالي، التحرّري. طرحت الحركة برنامج الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة في كل فلسطين، في مؤسساتها ونشاطاتها، وفي إعلامها، وفي المواجهة السياسية والأيديولوجية مع الحزب الشيوعي الذي يتبنى حل الدولتين، ويعتبر إسرائيل “تجسيداً لحق تقرير المصير للشعب اليهودي”. شغلتُ، أنا شخصياً، نائب الأمين العام للحركة، لأكثر من عشر سنوات، من أواسط الثمانينيات حتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وكنت محرّراً في صحفها، التي أغلقتها المخابرات الإسرائيلية في إطار حملة الملاحقة المكثفة للحركة وقياداتها، وكوادرها، من اعتقال، وفصل من العمل، ومنع الدخول إلى الضفة الغربية وقطاع غزّة، والسفر إلى الخارج. ومثلما حصل مع الأحزاب والفصائل الفلسطينية، من أزمات داخلية، قيادية وسياسية عامة، ولظروف موضوعية منها اتفاقية أوسلو التصفوية، أخفقت الحركة في التوسع، بل ضعفت، وانتهت إلى حركة صغيرة من دون تأثير سياسي حقيقي اليوم، ولكنها تركت إرثاً مهمّاً. وشعارها أو برنامجها، وهو برنامج منظمّة التحرير الفلسطينية الأصلي، عاد ليفرض نفسه على الساحة الفلسطينية، منطلقاً بصورة أساسية من فئات أكاديمية فلسطينية، في أميركا وأوروبا، وليتسع التداول بشأنه في فلسطين، ولتأتي الانتفاضات الشعبية، خاصة هبّة الوحدة والكرامة في مايو/ أيار من عام 2021، لتزكي هذا التحوّل نحو فلسطين الواحدة المتحررة من الأبرتهايد والاستعمار. وفي سياق هذا التحول، وظهور مجموعات تنادي بالدولة الواحدة، بعيد الانتفاضة الثانية، أسّسنا “حملة الدولة الديمقراطية الواحدة” عام 2018، بهدف المساهمة في هذا الجهد الفكري لدفع الفكرة إلى قلب الخطاب الفلسطيني العام.
ما أُريدُ قولَه: إن تبني رؤية تحررية واضحة، مثل حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة لا يعيق النضال التحرري، ولا يمكن أن يكون عبئاً عليه، بل هو عامل مؤازر ومُغْنٍ للفكر السياسي الفلسطيني.
الدولة الديمقراطية حاجة فلسطينية
في لقاء حول الدولة الديمقراطية الواحدة، قبل الحرب الإبادية الحالية، مع مجموعة من المحاضرين، وعدد من نخبة النشطاء من جامعة النجاح في نابلس، جرى خلاله نقاش، نهضت إحدى طالبات الماجستير، واحتجت قائلة متوجهة إليّ: “هل أنا كفلسطينية مضطرة إلى المطالبة بدولة ديمقراطية، فقط لأنه يوجد اليهود في فلسطين!”
وكان جوابي كالتالي: في كل الأحوال، شعبنا، مثل أي شعب آخر، يحتاج للديمقراطية بعد التحرر، والتضحيات الباهظة التي قدمها ويقدمها على مذبح التحرر من الاستعمار الصهيوني، لا بد أن تقود إلى إرساء حياة حرة في دولة ديمقراطية ليبرالية، وضامنة للعدالة الاجتماعية والاقتصادية، من خلال توزيع عادل للثروة. نحن لا نريد دولة يعاد فيها إنتاج نظام عربي، وراثي، جمهوري أو ملكي، مستبد وفاسد وتابع وفاشل. لا نريد دولة تحكمها سلطة كسلطة رام الله، فاسدة وتابعة، ومنبوذة من شعبها. كما لا نريد أي نظام غير ديمقراطي، بطابع ديني أو عسكري أو مدني.
أي إذا أردنا دولة مدنية ديمقراطية، ومتحررة من الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي، وغير قابلة للاستعمار، وللاستبداد، ولانتشار الفساد والفقر، فعلينا تصور منظومة حكم دستورية تضمن المساواة الكاملة، لكل من يعيش فيها، بغض النظر عن الخلفية الدينية أو الإثنية أو الطائفية، بمن فيهم اليهود الإسرائيليون، بعد هزيمة الصهيونية، لما تمثله من أيديولوجية عنصرية، وإقصائية، وإباديّة.
أي حتى لو لم يأت اليهود الأوروبيون إلى فلسطين، كنا دائماً بحاجة إلى دولة ديمقراطية، عادلة، غير استبدادية أو سلطوية، وفاسدة كما هو الحال في السلطة الفلسطينية، والأنظمة العربية التي يتأكد كل يوم أنها خارج حركة التاريخ، وباتت عبئاً على شعوبها، وعلى النضال التحرّري الفلسطيني والعربي، الداخلي والخارجي. هل الشعوب العربية التي فجرت ثوراتها عام 2011 كانت تريد الديمقراطية لفئة معينة، أم لصالح المواطن العربي، وغير العربي كالكردي والأمازيغي واليهودي، وغيرهم؟ ألا تزال هذه الشعوب تحلم وتنتظر الفرصة المواتية لتنقض مرة أخرى على أنظمة الثورات المضادّة، الفاسدة والتابعة، والتي بعضها يتحالف علنيا مع نظام الإبادة الصهيوني؟
حتى لو لم يأت اليهود الأوروبيون إلى فلسطين، كنا دائماً بحاجة إلى دولة ديمقراطية، عادلة، غير استبدادية أو سلطوية
نريد دولة فلسطينية ديمقراطية، تضمن عودة اللاجئين إلى الوطن، واستعادة أملاكهم، وتعويضهم عن المعاناة، بحيث يعيش فيها الفلسطينيون واليهود الاسرائيليون، من البحر إلى النهر، في كيان مساواتي حديث، وترتبط باتحاد فيدرالي أو كونفيدرالي، مع العالم العربي، بعد أن يتم نزع الكولونيالية عنه، ويصبح متحداً وديمقراطياً وحراً. هي معركة تحررية واحدة، يقف شعب فلسطين في طليعتها، ورأس حربتها. وفي الوقت ذاته، هي معركة عربية وإقليمية، والآن تمتد إلى مختلف أرجاء الكرة الأرضية في صيرورة تحررية مهمة وإن كنا لا نعرف حتى الآن كيف مآلاتها، وطبيعة النظام العالمي الذي سيحل محل النظام الإمبريالي والسلطوي الحالي.
أما بخصوص تحديد تصور العلاقة مع اليهود الإسرائيليين، في إطار دولة المستقبل، فهو ينطوي على حقائق تاريخية، وقيم حضارية راقية. إن الحضارة العربية الإسلامية تعاملت تاريخياً مع اليهود بصفتهم جزءاً من حضارتها، دينياً وثقافياً. فالقرآن ورسالة الإسلام هي استمرار للديانة اليهودية والمسيحية، وتلتقي حول وحدة الخالق، وجميعها ولدت في بلادنا، فلسطين والمنطقة العربية، وتشارك الجميع في بناء وازدهار الثقافة والعلوم والإدارة. ويستدعي مؤرّخون غربيون، متحررون من آفة التحيز ضد العرب والإسلام، تجربة التعايش في أقطار الدولة العربية الإسلامية، كالعراق والمغرب وتونس، وغيرها. وتحظى التجربة الأندلسية بمكانة مهمة في أبحاث هؤلاء. وفي السنوات القليلة الماضية ظهرت مجموعة من الأكاديميين والمثقفين، المقيمين في بريطانيا، مسلمون ومسيحيون ويهود ولا دينيون، باسم “كونفيننسيا” التي تعني التعايش باللغة الإسبانية. يطرح هؤلاء حلاً لقضية الصراع في فلسطين، مستوحى من التجربة الأندلسية، يتمثل بالدولة الواحدة في فلسطين التاريخية، مذكّرين بالعيش المشترك، مع يهود فلسطين العرب، قبل الغزوة الصهيونية.
كما تنبع أهمية تحديد العلاقة مع الوجود اليهودي في فلسطين، من كونها تقوّض ادعاء إسرائيل بتمثيل اليهود في العالم. إن أحد المرتكزات الأيديولوجية التي تستند إليها الدعاية الصهيونية هو الخلط بين الصهيونية واليهودية، وتوفير الحماية ليهود العالم، الذي لا يزال جزء كبير منهم، الصهاينة تحديداً، خاضع لتأثير هذه الدعاية، وتقوم لوبياتهم بدور تخريبي ورجعي في سياسات دولهم الوطنية بخصوص إسرائيل، الداخلية والخارجية، مثل شراء أعضاء البرلمانات والكونغرس، أو دفع حكومات دولهم لشنّ الحروب التوسعية. ما معناه، يساهم تضمين أي برنامج تحرري يحدد العلاقة السليمة مع اليهود ضمن دولة واحدة، في تحييد شرائح لا تزال إما متعصبة للمشروع الصهيوني الاستعماري وممارسات إسرائيل العدوانية والإبادية، أو متردّدة ومرتبكة، لمصلحة الحق الفلسطيني، ولمصلحة العدالة عامةً. إن حل الدولة الواحدة المساهمة يتناغم مع حالة الوعي الناشئة، والمتسارعة، في صفوف اليهود الأميركيين، خاصة بين الأجيال الشابة، الذين باتوا يتنصّلون من الصهيونية، ومن إسرائيل، باعتبارها كياناً متوحشاً. وبالتالي يستطيع أن يكون هذا الحل ذا فاعلية حقيقية في تعميق هذا الوعي، الذي تعتبره أوساط الحكم في نظام الأبارتهايد ضرراً استراتيجياً بالغاً على شرعية نظام الأبارتهايد الإبادي. وشاهد الجميع الدور المهم الذي تلعبه هذه الفئات اليهودية الأميركية في حركة الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة في حدتها واتساعها، ضد حرب الإبادة.
هل اقترب هذا الحلّ أم ابتعد أكثر؟ وهل يمكن هزيمة نظام الحركة الصهيونية ونظام الأبرتهايد بضربة قاضية؟ … أفرز الهجوم الصاعق، الذي نفذته حركة حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة على المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية، في غلاف غزّة، في السابع من أكتوبر (2023)، وما تبعه من حرب صهيونية إبادية، مشهداً ميدانياً وسياسياً مركباً، من حيث مفهوم النصر والهزيمة. فلا إسرائيل قادرة على تحقيق نصر حاسم، أو استراتيجي، كما تحلم، ولا المقاومة الفلسطينية مستعدّة للاستسلام، أو الهزيمة. لقد أحدثت هذه الجولة من الصراع الكولونيالي استقطاباً غير مسبوق من حيث درجته، وولّدت تقطباً حاداً في المواقف ونظرة كل طرف إلى الآخر، في المجتمع الاستيطاني من جهة، والشعب الفلسطيني من جهة أخرى. ولهذا بات الحل للصراع أبعد مما كان، ولكن الصمود الفلسطيني الأسطوري، وحرب الإبادة، التي فجرت غضباً عارماً وكراهية عميقة شعبية عالمية غير مسبوقة ضد إسرائيل، وسّعا جبهة العمل والنضال، على المستوى الدولي، أمام الشعب الفلسطيني، وقواه الحية، وضاعفا اتساع جبهة الحلفاء، كما اتسعت، بموازاة ذلك، وبالتفاعل مع الحدث، الثورة المعرفية، والوعي بالعطب الأخلاقي البنيوي، للنظام العالمي النيوليبرالي، وبالعبء الذي يمثله نظام الأبارتهايد الصهيوني على مصالح الشعوب الغربية. وهكذا تنامت وترسخت تقاطعية النضال بخط تصاعدي، على مستوى المقهورين، في أرجاء العالم، بحيث باتت قضية فلسطين قضية عالمية، يراها أحرار العالم جزءاً من معركة تحررية كونية. وهذا يفرض على الفلسطيني واجباً أخلاقياً ووعياً سياسيا يقضي بضرورة تلاحمه مع نضالات الشعوب المقهورة، أكثر من أي وقت مضى.
يشهد العالم تراجعاً عالمياً للإمبراطورية الأميركية، وصعود تكتل دولي واسع، مفسِحاً المجال لإنهاء نظام عالمي بقطب واحد، مما يفتح المجال أمام الشعب الفلسطيني لتفادي الارتهان لحسابات الإمبراطورية
يعيش نظام الأبارتهايد الكولونيالي في فلسطين، في ظل هذه الجولة الدامية من المواجهة، خطراً وجودياً حقيقياً، وبات المجتمع الاستيطاني مهجوساً أكثر من أي وقت مضى بهذا الخطر. لقد جلب النظام على نفسه، هذا الخطر، بسبب غطرسته وإصراره على التفوق، وعلى مواصلة تنفيذ هذا التفوق بالعنف المطلق والمبتذل، وبسبب رفضه كل التسويات السياسية، والحلول الوسط، التي تنطوي، في نظر غالبية الشعب الفلسطيني، على تنازل فاحش.
كما يشهد العالم تراجعاً عالمياً للإمبراطورية الأميركية، وصعود تكتل دولي واسع، مفسِحاً المجال لإنهاء نظام عالمي بقطب واحد لصالح نظام متعدد الأقطاب، مما يفتح المجال أمام الشعب الفلسطيني لتفادي الارتهان لحسابات الإمبراطورية. ومع أن هذا القطب الصاعد ليس متجانساً، وليس لديه خطابٌ سياسيٌ واجتماعيٌ محدد يمكن أن يكون بديلاً عن الخطاب الديمقراطي الليبرالي، الذي يمثل القوة الأميركية والغربية الناعمة، إلا أنه من شأنه أن يوسع مساحة المناورة في إطار تجميع نقاط القوة لمصلحة النضال الفلسطيني.
من شروط تصور تحقيق الدولة الديمقراطية الواحدة
من المفترض أن يشمل تصوّر خطة العمل باتجاه حل الدولة الواحدة مسارين أساسيين من عدد من المسارات؛ الأول هو المسار الفكري، الذي يتصل بمسألة استعادة الوعي بجذور الصراع، والثاني المسار العملي، الذي يتصل بالخطوات التنظيمية والجماهيرية، وبأساليب النضال، وبكيفية تشكيل جبهة حلفاء على المستوى العربي والإقليمي والكوني.
المسار الفكري يقوم على ضرورة تحليل طبيعة الصراع في فلسطين والمنطقة، والواقع المتشكل والمتدحرج بين البحر والنهر، واقع الدولة الواحدة تحت نظام إبادي، أي استعادة إطار التحليل الاستعماري الاستيطاني الذي تخلت عنه قيادة منظمّة التحرير الفلسطينية، والقطاع الأوسع من النخب، لصالح براديغما التسوية، أو الدولتين، التي تتأسس على قاعدة فهم مشوه لجوهر الصراع. ليس الصراع في فلسطين نزاعاً بين حركتين قوميتين، متساويتين في الحق، بل هو صراع كولونيالي، فرضه الغرب الاستعماري على المنطقة وفلسطين، من خلال تشكيل حركة أوروبية استعمارية إحلالية، بقيادة جماعة من اليهود الصهاينة، وقوى استعمارية غربية. وقد أفرز المشروع الصهيوني نظام أبارتهايد أصدرت بحقه منظمّات حقوق إنسان دولية تقارير مهمّة تعرّفه جريمةً ضد الإنسانية.
ماذا يترتب على قراءة الواقع في فلسطين وفق إطار التحليل الاستعماري، وقوانين الأمم المتحدة بخصوص الأبارتهايد. يترتّب على ذلك أن فلسطين كلها، خاضعة لنظام سياسي وعسكري وقانوني وإداري واحد ، تحت سيطرة كاملة لجماعة يهودية صهيونية أحدثت تغييراتٍ جذريةٍ في بنية البلد، إذ حوّلته من بلدٍ عربي إلى يهودي، بحيث باتت فكرة التقسيم وإقامة كيان فلسطيني مستقل، وعلى جزء صغير من فلسطين فقط، مشروعاً غير قابل للحياة، فضلاً عن أن الشعب الفلسطيني، خاصة أجياله الصاعدة، يتجه بقوة وبتسارع نحو فكرة فلسطين الواحدة، وضمناً نحو دولة ديمقراطية على أنقاض التجزئة والتقسيم والجدران العنصرية الفاصلة، ومجمل منظومة السيطرة الكولونيالية. ويتبع هذا التحليل، بالضرورة، تقديم تصور لشكل الدولة الواحدة المستقبلية، طبيعة نظامها، برلماني، أو رئاسي، أو مختلط، علاقة الدين بالدولة، العلاقة بين الاغلبية والاكثرية، نظام الأراضي، والمساواة الاجتماعية والجندرية، والنظام الاقتصادي، وكيفية إعادة تـأهيل اللاجئين العائدين ودمجهم في المجتمع، بعد استعادة املاكهم وتعويضهم. لا يجب اعتبار ضرورة الاتفاق على تصور عام لشكل الدولة، أمراً سابقاً لأوانه، فالكثيرون أيضاً يرغبون بمعرفة طبيعة الدولة التي سيناضلون من أجلها، ويقدّمون التضحيات في سبيل إقامتها بعد التحرير. ويضربون مثلاً على ذلك، أن الدول العربية تخلصت من الاستعمار المباشر، لكنها ظلت تابعة للخارج، من خلال الدوران بفلكها، وقبول القواعد العسكرية على أراضيها، ودول أخرى تبنت القومية العربية وفكرة التقدّم، ولكنها أخضعت شعوبها لأنظمة استبدادية، وسحقت المجتمع المدني، وفشلت في المعركتين، معركة تحرير فلسطين، ومعركة التنمية الشعبية المستدامة، والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وعندما ثارت الشعوب لتستردّ دولها وأوطانها من أيدي القلة الحاكمة، تعرضت للبطش والذبح، ممهدة للتدخل الخارجي ولعودة التبعية بصورة أعمق مما كانت.
الجانب العملي؛ مع أهمية التحليل ووضع تصور لشكل الدولة المنشودة ومضمونها، يظل التطبيق المسألة الحاسمة، وهو التحدي الأكبر وخاصة في ظل فرادة الحالة الاستعمارية الصهيونية، وارتباطها العضوي مع النظام الإمبريالي العالمي، وما أنتجته من تقسيم وشرذمة، فلسطينياً وعربياً، على المستوى الجغرافي، والسياسي، والثقافي.
يعيش نظام الأبرتهايد الكولونيالي في فلسطين، في ظل هذه الجولة الدامية من المواجهة، خطراً وجودياً حقيقياً
تُشكل مسألة التمثيل الفلسطيني، سواء في ما يتعلق بحلّ الدولتين التقسيمي، أو بحل الدولة الواحدة، أو أي حل آخر قادر على تلبية حقوق الفلسطينيين وتحقيق العدالة لقضيتهم، التحدّي الأكبر أمام الحركة الوطنية الفلسطينية، والذي يجهض غيابه ثمارَ النضال الفلسطيني، ويحُول دون مراكمة إنجازات التجربة الكفاحية. تعيش الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ أوسلو أزمة أشدّ وأكثر خطورة مما كان عليه الحال قبل توقيع هذا الاتفاق الكارثي. لم تعد منظمة التحرير الفلسطينية، التي مثلت أداة التحرير وهيئة التمثيل الوطني الجامع للكل الفلسطيني، والتي امتلكت مشروعاً تحريرياً، ولو نظرياً، وبرنامجاً سياسياً واضحاً هو التحرير والعودة والدولة الواحدة، لم تعد سوى يافطة، والتي تم تحويلها لاحقاً بصورة رسمية إلى مجرد دائرة من دوائر سلطة التنسيق الأمني. ومن نتائج هذا الانقسام الكارثي، الفصل الجغرافي والإداري بين الضفة وقطاع غزة.
لذلك تحتاج رؤية الدولة الديمقراطية الواحدة، بصفتها مشروعاً تحررياً، وحلاً سياسياً، إلى حركة تحرر متجددة، إما من خلال إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، بحيث تكون تمثيليةً جامعة للفصائل وللأطر الشعبية وللاتحادات المهنية والنسائية والطلابية، أو بناء حركة شعبية تعتمد استقطاب وتجنيد التيار الوطني الواسع غير الممثل في الأطر التمثيلية الرسمية القائمة، والمتهالكة.
لا ينتظر مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة إنهاء الانقسام بين فصيلين، وإعادة بناء منظمّة التحرير، بل ينخرط في جهد نظري وعملي لتوسيع النقاش بشأنه ولتعميق الوعي بفوائده من خلال المضي في العمل، والتحشيد، والتثقيف، والتواصل مع مختلف التوجهات السياسية والأيدلوجية، الشعبية والاكاديمية والمثقفة. إن الدفع بخطاب الدولة الديمقراطية الواحدة، إلى الفضاء العام، كمشروع تحرري شامل، من شأنه أن يولد ديناميكية جديدة، ويخلق ثقافة تحررية، جذرية، سياسية واجتماعية واقتصادية، تشكل لاحقاً الفضاء الطبيعي لحركة وطنية ديمقراطية تحررية، واسعة ووازنه، فمن خلال التفاعل يولد الجديد المنتظر، والمطلوب.
خلاصة
ندرك تماماً أن الأولوية القصوى في المنعطف التاريخي الذي تمرّ به قضية فلسطين، في ظل استمرار حرب الإبادة الصهيونية، وتعاظم الكارثة الإنسانية، واستمرار الانقسام الكارثي، هو بناء مرجعية سياسية وطنية تستطيع أن تستثمر الصمود الفلسطيني الملحمي، وتمنع فرض مخططات إدارية وسياسية خارجية على غزة وفلسطين. وتكتسب الجهود الجارية، داخل فلسطين والشتات، لعقد مؤتمر وطني فلسطيني، تتمخض عنه استراتيجية لإعادة بناء الحركة الوطنية، في إطار منظمة التحرير، أهمية كبرى، ومصيرية. ومن المفترض أن يواصل المبادرون التحلّي بالمسؤولية العالية، من خلال بذل كل جهد، والتركيز على الجوهري، واستبعاد المسائل الثانوية والشكلية، خاصة أن واقع العالم العربي في حالة رثة، ويحتاج إلى حالة فلسطينية سياسية ناهضة ومتماسكة تستطيع أن تساهم في تثوير الواقع العربي الشعبي، الذي ظل خاملاً طيلة حرب الإبادة باستثناء المقاومة في لبنان واليمن التي سجلا دوراً استثنائياً من خلال الإسناد الفعلي لغزة والشعب الفلسطيني، وممارسة الضّغط من أجل وقف حرب الإبادة.
وفي الوقت ذاته، من الأهمية بمكان مواصلة النقاش، بخصوص البرنامج السياسي أو الحلول، بطريقةٍ ديمقراطيةٍ وهادئة، التي سيتبنّاها هذا المؤتمر. فحل الدولة الواحدة لم يعد بالإمكان التهرّب من مواجهته، ومن التعامل معه بجدّية، وتفكّر عميق، حتى لو توافق الجميع على الاكتفاء بعدم تحديد الحلول في هذه المرحلة. وسيظل السؤال أو التساؤل، الذي فرض نفسه منذ انطلاق مبادرة المؤتمر، لإعادة بناء منظمّة التحرير الفلسطينية، حاضراً بقوة ألا وهو؛ إذا كان الهدف الرئيسي إعادة بناء المنظمة، فماذا مع ميثاقها، الذي يتحدث عن التحرير والعودة، وماذا عن قرار برلمانها، القاضي بتبني حل الدولة الديمقراطية الواحدة، عام 1971.. هل سيتم تجاهله، أم يُعاد الاعتبار له، وهو الأمر المطلوب، وتبنيه مع تحديثه وتطوير اللغة والخطاب بحيث يصبح واضحاً أكثر من حيث البعد التحرري، والإنساني، والديمقراطي لهذا الحل.
ونحن نعيش الحدث الزلزالي في غزّة، والذي تردد صداه بقوة في ميادين ومحافل الحكم في العالم، وخصوصاً الغربي، نحتاج لتقييم آثار هذا الحدث، وإجراء مراجعاتٍ جدّية ومسؤولة، وبالتالي استشراف ما سيكون عليه الحال، وما يستحق من مقاربة عملية. يمكن القول، رغم ما حقّقه الصمود الفلسطيني من هزة عميقة وأبدية ليس داخل الكيان الإسرائيلي فحسب، بل في الوعي الفلسطيني، والعربي أيضاً، فإن الصراع طويل ومؤلم، ولكنه وفّرَ فرصاً غير مسبوقة لعملية التحرّر الفلسطيني. إن مرحلة ما بعد الحرب، التي على الأرجح ستستمر وإن بصورة متقطعة، وبحدة أقل، سيغلب عليها طابع النضال أو المقاومة الشعبية، السياسية، والإعلامية، داخل فلسطين وخارجها، وسيكتسب النضال القانوني والدبلوماسي زخماً أكبر بعد تهاوي السردية الصهيونية، وصدور قرار باعتقال مجرمي الإبادة الصهاينة. ويترتب على ذلك، إعمال الجهد لبلورة استراتيجية مقاومة تأخذ بالاعتبار قدرة تحمل الشعب الفلسطيني، وليس إرهاقه بما لا يستطيع، وكذلك خصوصيّة كل تجمّع فلسطيني، وما يلائمه من وسائل نضالية.
ولهذا كله، تصبح مسألة تطوير الخطاب التحرّري الوطني ببعد إنساني وديمقراطي، الذي يتناغم مع خطاب أحرار العالم، في غاية الأهمية. وهذه أيضاً فرصة أمام النخبة الفلسطينية المثقفة، الملتزمة بالهمّ الفلسطيني، وبمبدأ كرامة الإنسان، المساهمة، إلى جانب مثقفي العالم الأحرار، في إنتاج وتطوير خطاب حضاري كوني بديلاً عن خطاب النيوليبرالي المتوحش، وعن نموذج السلطوية والديكتاتورية. إن نزع الكولونيالية عن فلسطين، مرتبط بنزع الكولونيالية على المستويين، الإقليمي والدولي. لا يجوز عزل الفعل المقاوم، أو المقاومة بصورة عامة، عن البعد الأخلاقي، وعن جعل كرامة الإنسان وحريته وحقوقه الأساسية في مركز أي مشروع تحرّري.