حيدر عيد
نشر هذا المقال في الهدف
أصبح من الواضح الآن بعد إعلان منظمة التحرير الفلسطينية أنها في “حل من الاتفاقيات الموقعة” مع كل من دولة الاستعمار الاستيطاني والولايات المتحدة الأمريكية، ثم تراجعها، وبعد 46 عاماً من تبني ما اتفق على تسميته بالبرنامج المرحلي للمنظمة الذي تخلى ضمنياً عن برنامج “تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني” (المشروع الوطني الأصلي)، وبعد32 عاماً على إعلان الاستقلال الشهير والذي وافق على إقامة دولة على 22% من أرض فلسطين التاريخية، و بعد27 عاماً من توقيع اتفاقيات أوسلو التي أثمرت عن تأسيس السلطة الوطنية، أن ما اصطُلح على تسميته بالمشروع الوطني الفلسطيني قد وصل إلى نهاياته، دون أن يقوم من صاغه و دافع عنه، أو الذي تبناه حديثاً، بطرح بديل ديمقراطي تحرري.
المشروع الوطني المقصود والمتعارف عليه هنا هو ذلك الذي أُعيدت صياغته عام 1974 في الدورة ال12 للمجلس الوطني التي تُبنيّ خلالها ما سمي بالنقاط العشرة، أو البرنامج المرحلي، ودعا لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس ، مع ضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، و باسم هذا المشروع تم توقيع اتفاقيات أوسلو والبدء بالمفاوضات، لم يبدُ منذ بدايتها أن لها نهاية، مما أعطى الوقت الكافي للعدو الإسرائيلي لتدمير الأسس التي قام عليها هذا المشروع. ويكمن التناقض البنيوي في هذا المشروع في الجمع بين إقامة الدولة على 22% من أرض فلسطين التاريخية، وفي نفس الوقت المطالبة بالعودة إلى دولة تعرف نفسها بأنها ليست دولة مواطنيها، وهذا التناقض أدى بالضرورة إلى تهميش جوهر القضية؛ ألا وهو حق العودة، ولكن هذا العجز البنيوي يتجسد أيضاً في تجنب ذكر المكون الثالث من الشعب الفلسطيني، ذلك المكون الذي حافظ ولا زال، على العلاقة الوطيدة مع ما كان وطناً واحداً تحول معظمه إلى ”وطنٍ” لفئاتٍ استعماريةٍ استيطانية. وهنا يكمن جوهر فشل المشروع الوطني الفلسطيني؛ من حيث أنه لم يتعامل مع المشروع الصهيوني على هذا الأساس، بل على نحو صغّره، أي المشروع الصهيوني، إلى احتلال عسكري لجزء من الوطن، كأي احتلال أجنبي تقوم به دولة لدولة أخرى، وبالتالي، فإن التخلص من هذا الاحتلال يؤدي إلى الحرية المنشودة!
والسؤال المركزي في هذا السياق هو إن كان ما اصطُلح على تسميته بالمشروع الوطني الفلسطيني هو في جوهره تحررياً، بمعنى أنه يعبر عن تطلعات المكونات الثلاث للشعب الفلسطيني بالانعتاق من مشروع استعماري استيطاني كالمشروع الصهيوني؟ أم أصبح يعبر عن إما مصالح طبقية ضيقة لطبقة غير أصيلة استحوذت على تعريف هذا المشروع بشكل يعبر عن مصالحها الطبقية المباشرة، أو من ناحية أخرى، مصالح أيديولوجية ضيقة لا ترى الأبعاد التحررية للمكونات الثلاث بشكل متكامل، وتتميز بأجندة طبقية-اجتماعية محدودة؟
إن الفشل الذريع هو ما يميز النخب السياسية الفلسطينية، إما من خلال قصر النفس النضالي، و/ أو تغليب المصلحة الطبقية غير الأصيلة على الأهداف التحررية إنسانية الأبعاد، و/أو غياب رؤية استراتيجية تحررية بالمعنى الحرفي للكلمة، و/أو تشويش معنى المقاومة ليناسب مقاس عباءة أيديولوجية ضيقة، أو حتى احتكارها، والتغني بها بشكل موسمي، وتصوير هذا الفشل على أنه إما انتصار غير مسبوق، أو ادعاء التحرير، كما حصل في غزة، دون ربط هذا “التحرير” برؤية استراتيجية واضحة المعالم تأخذ في الحسبان الطبيعة الكولونيالية للمشروع الصهيوني برمته، والمكونات الثلاث للشعب الفلسطيني التي تضررت بأشكال مختلفة من وجود هذا المشروع. إن عدم التركيز بشكلٍ متكافئٍ على هذه الفئات الفلسطينية وعلى حقوقها الكاملة، والربط بين هذه الحقوق –من حرية و عدالة و مساواة – هو بالضبط ما يوضح فشل ما يُسمى بالمشروع الوطني الفلسطيني كما يعرف من قبل التيارات السائدة.
وعليه، فإن النظام السياسي الفلسطيني برمته يحتاج إلى مراجعة نقدية جذرية تعمل على تخطيه، آخذة بعين الاعتبار الوصول إلى بدائل للمشروع الوطني الذي أثبت فشله تاريخياً من حيث عجزه عن تحقيق الحد الأدنى مما طرحه، ولا يمكن فصل هذه البدائل عن الأدوات النضالية الخلاقة التي تأخذ جميع قوى الشعب بمكوناته الثلاث بعين الاعتبار في مواجهة مشروع استيطاني استعماري، وليس فقط احتلالاً عسكرياً. وبدون تعريف واضح للطبيعة الاضطهادية المركبة لهذا الاستعمار، من احتلال واستيطان تطهيري وأبارثهيد، والتعامل معها على أساس أنها تستهدف الشعب الفلسطيني برمته، فإن النجاح سيكون حليف الولايات المتحدة الأمريكية في مساعيها الأخيرة لمساعدة إسرائيل بإلحاق هزيمة تاريخية بالشعب الفلسطيني. وبالتالي آن الأوان للتفكير، بل العمل الجدي لما بعد “المشروع الوطني الفلسطيني” من خلال العمل الجدي على خلق بديل وطني ديمقراطي تتوفر به بعض الشروط الأساسية:
– أن يكون وفيًا لكل القيم الوطنية الأصيلة، وليس لجزء منها.
-أن يكون جذريًا في التصدي للصهيونية بشكل لا لبس به.
-محاربة كل أشكال التطبيع كما تم الإجماع على تعريفه.
– التخلي عن خرافة “المرحلية”.
-الدفاع عن كل مكونات الشعب الفلسطيني، وعدم تفضيل مكون على آخر.
– اتخاذ مواقف مبدئية تقوم على أساس تبعية الفصيل للوطن، وليس العكس.
– التبني العملي الكامل لنداء مقاطعة إسرائيل.
– عدم التحالف مع الأنظمة الرجعية العربية على حساب قوى التحرر.
– عدم التبعية لأنظمة خارجية على حساب المصلحة الوطنية.
– التمسك بشكل مبدئي بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث.
التجربة الجنوب أفريقية
يبقى السؤال عن المقارنة بين التجربة الجنوب أفريقية ونظيرتها الفلسطينية محل اهتمام الغالبية الساحقة من المنخرطين/ات في النشاط السياسي، بالذات بعد فشل المفاوضات العبثية على مدار ربع قرن من الزمان، بين طرف استعماري ينطبق عليه تعريف الاستعمار الاستيطاني من ناحية، وطرف مستعمَر يعاني أشكالاً مركبة من الاضطهاد؛ صغر نضالاته للوصول إلى تحسين شروط القهر الاستعماري، ومن ثم ثبات استحالة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، حتى كبانتوستان عرقي، على جزء صغير من أرض فلسطين التاريخية. وبالتالي ترسيخ حقيقة أن الكيان الموجود بين نهر الأردن و البحر المتوسط هو دولة واحدة خاضعة بالكامل لسيطرة استعمارية قهرية في معظمها، وإن كانت أحياناً تجمل نفسها من خلال استخدام خطاب يبدو في مظهره ليبرالياً، يدعو للحوار بين طرفين متساويين في القوة، وأن القضية يمكن حلها من خلال كسر ما يسمى بالحاجز النفسي، بغض النظر عن سياسة الاحتلال والأبارثهيد والاستعمار الاستيطاني.
أي تحليل تاريخي نقدي للمستنقع الفلسطيني الحالي لا يمكن إلا أن يقود إلى العلاقة بين الصهيونية والأبارثهيد من ناحية، وسياسة الاستيطان الاستعماري من ناحية أخرى. إن أوجه الشبه بين نظامي الأبارثهيد في جنوب أفريقيا وفلسطين المحتلة متعددة – قوانين المواطنة؛ الاعتقال الإداري؛ تقييد حرية الحركة؛ البناء والتملك؛ استهداف الناشطين.. الخ، وبالضبط كما كان نظام الأبارتهيد يمنح حق المواطنة للسكان البيض ويعزل السكان الأصليين في معازل عرقية، فإن الصهيونية اليوم تعطي كل اليهود حق المواطنة. بمعنى أن حق المواطنة بناء على الهوية العرقية تم استبدالها بالهوية الدينية! وكما تم سن قوانين تمنع حرية حركة المواطنين السود، فإن إسرائيل لا تتوانى عن بناء نظام عسكري عنصري بغيض؛ يحد من حرية حركة السكان، وذلك من خلال شبكة معقدة من (المحاسيم)؛ طرق مخصصة للمستوطنين اليهود فقط؛ جدار فصل عنصري، ويتم كل ذلك بغطاء (قانوني) عجيب؛ يتحكم بحياة الفلسطينيين اليومية وبطريقة معيشتهم. كلا النظامين تشكلا عبر عملية استعمار استيطاني لعبت الأيديولوجيا العرقية والإثنية والدينية؛ دوراً هائلاً في تبربر ما قام المجتمع الدولي لاحقاً، باعتباره ثاني أكبر جريمة ضد الإنسانية؛ ألا وهي الأبارثهيد، ولكن القانون الدولي له حدود معينة وقيود لا يمكن تجاوزها، وهذا يتطلب منا دراسة موضوعية متأنية للحل الجنوب أفريقي الذي أدى إلى زوال نظام الأبارثهيد سياسياً، مع البقاء على التمييز الاقتصادي في مرحلة ما بعد الأبارثهيد وضرورة مواجهة الدولة العبرية ككيان أبارثهيد والنظام الرأسمالي العنصري في نفس الوقت، حيث أن جنوب أفريقيا الآن وبعد القضاء على الفصل العنصري منقسمةً ولا مساواة اجتماعية فيها؛ بسبب مواجهة العنصرية وإغفال مجابهة هياكل الرأسمالية، وهكذا تحولت العنصرية الرأسمالية إلى نيوليبرالية تشرعن اللامساواة والاضطهاد الطبقي العرقي، وعلى حركة التحرير الفلسطينية الاستفادة من دراسة نجاح النضال في جنوب أفريقيا، ولكن بوسعها أن تستفيد أكثر إذا فهمت حدوده وقيوده.
فعلى الرغم من أن السود في جنوب أفريقيا حصلوا على المساواة القانونية رسمياً، فإن عدم التصدي لاقتصاديات الفصل العنصري؛ فرض قيوداً حقيقية على عملية إنهاء الاستعمار. من نفس المنطلق التحليلي نستطيع أن نجادل أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي يعمل الآن من خلال الرأسمالية العنصرية النيوليبرالية التي حولت الفلسطينيين إلى مجموعات سكانية يمكن التخلص منها. علينا إذاً فهم الديناميات النيوليبرالية في النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي من أجل تطوير استراتيجيات تتصدى للأبارثهيد الإسرائيلي، ليس فقط كنظام هيمنة عنصرية، بل أيضاً كنظام رأسمالي عنصري.
علينا، كما السود في جنوب أفريقيا في عقدي السبعينيّات والثمانينيّات من القرن المنصرم، الانخراط في حوارات عاجلة لمحاولة فهم نظام الفصل العنصري الذي نواجهه، ومثلما جادلت الكتلة الأقوى داخل الحركة المناهضة لنظام الأبرتهايد هناك، بالذات “المؤتمر الوطني الأفريقي”، بأن الفصل العنصري هو نظام هيمنة عنصرية، وأن الكفاح ينبغي أن يتمحور حول القضاء على السياسات العنصرية والمطالبة بالمساواة بموجب القانون، يميل التيار الوطني السائد في فلسطين من ناحية إلى التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي لمناطق الـ67 كاحتلال كلاسيكي من دولة لدولة أخرى، ومن ناحية أخرى اعتبار الكفاح في مناطق الـ48 نضالًا من أجل مساواة سياسية؛ إلا أنه كان هناك أيضًا تيار من الراديكاليين السود الذين رفضوا التحليل المهيمن لحزب المؤتمر الوطني، وركّزوا على تحليل الفصل العنصري كنظام “رأسمالية عنصرية” ما يحتم تطوير البرنامج الكفاحي لمجابهة دولة الاستعمار الاستيطاني الأبيض والنظام الرأسمالي العنصري في نفس الوقت، حيث تنبأوا بأن تظل جنوب أفريقيا بعد القضاء على الفصل العنصري منقسمةً ولا مساواة فيها، ما لم تواجَه العنصرية والرأسمالية معًا.
لقد تبنّى العديدُ من النشطاء والكتّاب الفلسطينيين حلَّ “الدولة الديمقراطيّة الواحدة على فلسطين التاريخيّة” منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، وأثبتوا أنّ “حلّ الدولتيْن” قد مات منذ فترةٍ طويلة، والحقيقة أنّ هذا التصنيف هو تصنيفُ الواقع الذي تعيشه فلسطين بأكملها (مناطق 67 ومناطق 48)، أيْ إنّ فلسطين اليوم دولة واحدة فعلاً، وإنْ بنظاميْ حكمٍ قد يبدوان مختلفيْن:
ــــ نظام احتلال عسكريّ مباشر، غير معترف به دوليًّا، في مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة؛
ــــ ونظام حكم عنصريّ ينطبق عليه حرفيًّا التعريفُ القانونيُّ للأبارثهيد، ولكنّه (وهنا تكمن المفارقة) معترَفٌ به دوليًّا إلى درجة أنّ عدمَ القبول به يستدعي اتّهاماتٍ بـ”معاداة الساميّة،” أيْ بالعنصريّة!
علينا ألا ننتظر “القوى الدوليّة” لفرض حلّ عنصريّ؛ طرحه في الأساس ما يسمّى “اليسار الصهيونيّ،” ولا القوى اليمينيّة التي تنمو في العديد من البلدان للبدء بالغزل مع نظام أبارثهيد جديد، قد يجد بعضُ المطبعين العرب أنّه الحلّ الأمثل. فما علينا إلّا إثبات أنّ الشعب الفلسطينيّ، بمكوِّناته الثلاثة (48، 67، شتات)، يمتلك الأرضيّة الأخلاقيّة العليا في نضاله ضدّ استعمار استيطانيّ متعدّد الأوجه (احتلال، أبارثهيد، استيطان)، وأنّ الرؤية السياسيّة التي يتبنّاها لا يمكن؛ إلّا أن تكون إنسانيّة تحرّريّة بالمعنى الشامل للكلمة.
حيدر عيد أستاذ مشارك لمادة الادب الخاص بفترة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة في جامعة الأقصى – غزة، وعضو في حملة الدولة الديمقراطية الواحدة