حمادة جبر
يُعبّر التقارب الحمساوي-الفتحاوي الأخير عن عمق الأزمة التي وصل كل منهما في قطاع غزة والضفة الغربية اللتين تحكمهما الحركتان بحكم الأمر الواقع، ولا يعبر عن الوحدة المزعومة لمواجهة التحديات التي يواجهها الفلسطينيون وعلى رأسها “صفقة القرن” التي وللمفارقة، قد أعلنت الحركتان في أوقات عديدة عن إجهاضها لصفقة القرن ودفنها قبل ولادتها.
عٌمق أزمة حركة حماس يمكن التدليل عليه بموافقتها على مشروع حركة فتح القائم على حل الدولتين على حدود 1967 في الوقت الذي أصبحت فيه حركة فتح ذاتها ترى بأن هذا الحل قد بات مستحيلاً بل وقد شبع موتاَ من جهة، وتراجع وحصر مقاومتها المسلحة من كونها استراتيجية إلى مجرد تكتيك من جهة أخرى. في المقابل، أزمة حركة فتح تبدو أكثر عمقاً وتعقيداً وعلى وشك التشظي بعد فشلها المدوي على مدار أكثر من ربع قرن في تحقيق برنامجها القائم على حل الدولتين، وفشلها كذلك في بناء مؤسسات قابلة لأن تكون نواة لمشروع الدولة، ليأتي التطبيع العربي-الإسرائيلي ويضعها في زاوية المناورة المحدودة والرضوخ أو الثورة التي لم تعُد مؤهلة لها. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه حسب استطلاعات المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، فإن برنامج الحل القائم على حل الدولتين قد تراجع تأييد الفلسطينيين له من %55 عام 2011 إلى %39 فقط اليوم رغم تأييد كل الأحزاب والحركات الفلسطينية له (بما فيها حركة حماس وعدم معارضة الجهاد الإسلامي). في المقابل ارتفع تأييد حل الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية بحقوق متساوية لكل مواطنيها من %27 عام 2011 إلى %37 اليوم بالرغم من عدم تبني أي حزب أو حركة فلسطينية لهذا الحل.
إن الثنائية الحمساوية-الفتحاوية المقيتة القائمة على المحاصصة والمصالح الحزبية وثقافة التكسُب غير المشروع غالباً وبأي ثمن، والتي نسيت أو تناست أنها حركات تحرر وطني، ليست ثنائية حقيقية ولكنها ستبقى كذلك في غياب قوة ثالثة حقيقية. الفلسطينيون اليوم متعطشون لحزب أو حركة قادرة على استنهاض طاقاتهم وآمالهم بمخاطبة عقولهم وتقديم رؤى وبرامج ثورية وواقعية في آن.
في شهر أيلول الماضي، أجرى المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية استطلاعاً للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. تقول نتائج الاستطلاع إلى أنه لو جرت انتخابات تشريعية جديدة اليوم بمشاركة كافة القوى السياسية فإن %61 يقولون بأنهم سيشاركون فيها، ومن بين هؤلاء المشاركين تحصل قائمة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس على %34، وفتح على %38، وتحصل كافة القوائم الأخرى التي شاركت في انتخابات عام 2006 مجتمعة على %8، وتقول نسبة من %20 أنها لم تقرر بعد لمن ستصوت. وفي التفاصيل، يُلاحظ أن 3 كتل (منها كتلتان تمثل 4 أحزاب/حركات) من الكتل التي اجتازت نسبة الحسم في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، يُلاحظ أنها لن تستطيع اجتياز نسبة الحسم لو جرت انتخابات تشريعية اليوم مع مراعاة نسبة الخطأ +/- %3. في المقابل، قالت نسبة من %39 بأنها لن تشارك في الانتخابات.
كما يُستدل من نتائج الاستطلاع المذكور، فإن أحزاب وحركات ما يُسمى “اليسار الفلسطيني” قد تخسر نصف مقاعدها التي حصلت عليها مجتمعة في الانتخابات التشريعية عام 2006 وقد كانت 9 مقاعد من أصل 132 مقعد. هذه الخسارة المتوقعة ناتجة عن فشل تلك الأحزاب والحركات بالوفاء لمبادئها وبرامجها وقواعدها الجماهيرية، ورغم تنبهها إلى ذلك ومحاولتها تشكيل جسم يعبرعن الحد الأدنى من وحدتها لتشكيل قوة ثالثة مثل “التجمع الديمقراطي” ما بين أيلول/سبتمبر 2018 وكانون الثاني/يناير 2019، إلى أن حسابات المصالح الضيقة خاصة لقيادات تلك الأحزاب والحركات جعلتها تخسر الفرصة الأخيرة لحمايتها من الاندثار والخروج من المشهد السياسي الفلسطيني غير مأسوف عليها.
بعد جمع نسبة الذين لن يُشاركوا في الانتخابات (%39) ونسبة الذين لم يقرروا بَعد لمن سيصوتون (%20 من نسبة %61 الذين قالوا بأنهم سيشاركون) تكون نسبتهم %51 من مُجمل الفلسطينيين الذين يحق لهم الانتخاب.
إذن، هناك فرصة حقيقية لحزب أو تيار أو حركة جديدة لإقناع %39 عن العدول عن قرارهم بعدم المشاركة حيث يُعتقد أن السبب الرئيسي في عدم رغبتهم بالمشاركة هو عدم ثقتهم بالأحزاب والحركات الموجودة اليوم وربما أيضاً عدم قناعتها ببرامجها. وكذلك هناك فرصة لإقناع %20 من الذين قالوا بأنهم سيشاركون في الانتخابات ولكنهم لم يقرروا بعد لمن سيصوتوا، وحتى هناك فرصة للتنافس أيضاً على أصوات الذين قرروا لمن سيعطوا أصواتهم إذا ما كان الحزب أو الحركة الجديدة قادرة على تقديم برنامج جديد ومختلف وربما ثوري من حيث البرنامج والأدوات، وبذلك قد تصل نسبة الذين يمكن اقناعهم إلى أكثر من %60 من مُجمل الفلسطينيين الذين يحق لهم الانتخاب.
الفرصة سانحة ومُلحة وحقيقية وتاريخية خاصة إذا كانت قائمة على قيادة شابة ثورية جديدة لم تتلطخ بفساد السلطة والأحزاب. وهذه دعوة إلى كل شباب فلسطين بأن يثقوا بأنفسهم وعدم التردد من تقديم رؤى وبرامج تحررية نضالية جديدة تخاطب عقول الجماهير ليس على الطريقة “البراغماتية” الاستسلامية أو العسكرية المدمِرة، بل على طريقة الإيمان بأن إرادة ووحدة الجماهير الملتحمة والتي تثق بقيادتها قادرة على صُنع المعجزات.