حيدر عيد
نُشر في الآداب
تبنّى العديدُ من النشطاء والكتّاب الفلسطينيين حلَّ “الدولة الديمقراطيّة الواحدة على فلسطين التاريخيّة” منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، وأثبتوا أنّ “حلّ الدولتيْن” قد مات منذ فترةٍ طويلة. إلّا أنّ الحديث عن “حلّ الدولة الواحدة” غدا موضةً إعلاميّةً بعد بضع كلمات غير مفهومة قالها الرئيسُ الأمريكيّ دونالد ترامب في المؤتمر الصحفيّ الذي جمعه برئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتانياهو ــــ والرجلان يمثّلان سياساتٍ يمينيّة عنصريّة ومذاهبَ عنيفةً في إدارة الدولة، تقوم على أساس عرقيّ/دينيّ بحت يعبِّر عن مصالح طبقيّة واضحةِ المعالم.
ويتمّ الخلطُ الإعلاميّ ــــ المبنيّ على الجهل أو التضليل ــــ بين “الدولة الواحدة” بالمعنى الذي يتبنّاه بعضُ الكتّاب والناشطين الفلسطينيين أعلاه، وبين ما طرحه ترامب عن “دولة واحدة” قد يَقْبل بها إذا توصّل الطرفان (الإسرائيليّ والفلسطينيّ) إليها. فالأخيرةُ دولةُ أبارتهايد (فصل عنصريّ) شبيهة بالجنوب الأمريكيّ تحت “قوانين جيم كرو”؛ دولةٌ لا علاقةَ لها بالديمقراطيّات المدنيّة التي لا تفرّق بين مواطنيها على أساس العِرق أو الدين أو الجنس.
والحقيقة أنّ هذا التصنيف هو تصنيفُ الواقع الذي تعيشه فلسطين بأكملها (مناطق 67 ومناطق 48). أيْ إنّ فلسطين اليوم دولة واحدة فعلًا، وإنْ بنظاميْ حكمٍ قد يبدوان مختلفيْن:
ــ نظام احتلال عسكريّ مباشر، غير معترف به دوليًّا، في مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة؛
ــ ونظام حكم عنصريّ ينطبق عليه حرفيًّا التعريفُ القانونيُّ للأبارتهايد ولكنّه (وهنا تكمن المفارقة) معترَفٌ به دوليًّا إلى درجة أنّ عدمَ القبول به يستدعي اتّهاماتٍ بـ”معادة الساميّة،” أيْ بالعنصريّة!
في “حلّ الدولتين،” و”حلّ الدولة الواحدة،” كما يطرحه ترامب، يجري الحديثُ بمنطقٍ إقصائيّ لا يرى إلّا العِرق و/أو الدين مكوّنًا أساسيًّا لهويّةٍ نقيّةٍ لا تشوبها شائبة. ويتجسّد ذلك عمليًّا في قوانين الفصل العنصريّ التي ابتدعها نظامُ الأبارتهايد، وفي أكثر من 60 قانونًا أساسيًّا أقرّها الكنيستُ الإسرائيليّ. هذه القوانين شبهُ متطابقة، وتقوم على أساس تشريع سرقة الأرض، والتهجير، والتطهير العرقيّ، والسيطرة الحكوميّة على العلاقات الأسَرية، بشكلٍ يصبّ في مصلحة مجموعةٍ عرقيّةٍ أو دينيّةٍ محدّدة. وعليه، يصبح تعريفُ “الدولة” محصورًا في التعبير عن تمثيل تلك المجموعة فقط. ثمّ تضاف قوانينُ تمنع أيَّ نوع من الاحتكاك اليوميّ بين المجموعات السكّانيّة إلّا في إطار قمعيّ أو استغلاليّ. وعليه، فإنّ خطاب “الدولتين” يقوم على أساس عنصريّ، وهو في المحصّلة النهائيّة خطابُ كراهيةٍ وعزلٍ “للآخر.”
من المثير للاستغراب، في هذه الحالة، الدفاعُ، المستميتُ أحيانًا، عن هذا الطرح من قبل المضطهَد الفلسطينيّ، إلى حدّ أنّ ردودَ أفعالٍ فلسطينيّةً كثيرةً لامست الهستيريا الوجوديّة واعتبرتْ أنّ “فكرة دولة واحدة يتساوى فيها الجميعُ محضُ هراءٍ وغيرُ ممكنة!” وبالتالي يصبح أيُّ بديلٍ ديمقراطيّ للحل العنصريّ “مرعبًا.” وفي الوقت نفسه يصبح الحلُّ الإنسانيّ الذي يتطابق مع “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان” ومع الشرعيّة الدوليّة ــــ وهو حلٌّ مطبّقٌ في “الديمقراطيّات الليبراليّة” ــــ فزّاعةً يستخدمها بعضُ السياسيين الفلسطينيين لتخويف إسرائيل والشعب الفلسطينيّ والمجتمع الدوليّ!
ما يطرحه المدافعون عن “حلّ الدولة الديمقراطيّة على كامل فلسطين التاريخية” هو حلٌّ إنسانيٌّ يتخطّى “سياسات الهويّة” السائدة لدى الأوساط اليمينيّة. إنّه حلٌّ أخلاقيّ، وبراغماتيٌّ في الوقت نفسه، يقوم على أساس القيم التي تأسّستْ عليها المنظومةُ الدوليّة الحديثة، منظومةِ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، بغضّ النظر عن الدين والعِرق والجنس.
هذا هو صميم الاختلاف بين مَن ناضلوا من أجل إنهاء الأبارتهايد في وصفه تجسيدًا لأسوأ ما جاءت به الإنسانيّة، ونظامًا وريثًا لمرحلة العبودية؛ وبين مَن ناضلوا من أجل مجتمع منفتح، ديمقراطيّ، يمثّل الجميع. وهذا أيضًا هو جوهرُ الاختلاف بين ما يسمّى “حلّ الدولتين (العنصريّ)” في فلسطين و”حلّ الدولة الديمقراطيّة الواحدة.”
نحن لن ننتظر “القوى الدوليّة” لفرض حلّ عنصريّ طرحه في الأساس ما يسمّى “اليسار الصهيونيّ،” ولا القوى اليمينيّة التي تنمو في العديد من البلدان، وتمثّلها القيادةُ الأمريكيّة الجديدة، للبدء بالغزل مع نظام أبارتهايد جديد قد يجد بعضُ الإنكشاريين الفلسطينيين و/أو العرب أنّه الحلّ الأمثل. فما علينا إلّا إثبات أنّ الشعب الفلسطينيّ، بمكوِّناته الثلاثة (48، 67، شتات)، يمتلك الأرضيّة الأخلاقيّة العليا في نضاله ضدّ استعمار استيطانيّ متعدّد الأوجه (احتلال، أبارتهايد، استيطان)، وأنّ الرؤية السياسيّة التي يتبنّاها لا يمكن إلّا أن تكون إنسانيّة تحرّريّة بالمعنى الشامل للكلمة.
من قاعة محكمة ريفونيا العنصريّة في جنوب أفريقيا، وقف نيلسون مانديلا سنة 1964 “للدفاع” عن نفسه في مواجهة تهمِ “قلب نظام الحكم،” أي التخلّص من نظام الأبارتهايد وبناء نظام يقوم على الحريّة والعدالة و المساواة. فقال:
“إنّني أعتزّ بالمفهوم الأمثل للديمقراطيّة وحريّة المجتمع، حيث يعيش جميعُ الأفراد في تناغم وحقوق متساوية. إنّه النموذج الذي أحلم أن أحيا من أجله وأن أطبّقه. لكنْ إذا ما دعت الحاجة فإنّني على استعداد للموت من أجله أيضًا.”
وقد تجسّد ذلك في دولة واحدة ديمقراطيّة لكلّ سكّانها: من أفارقة، هم سكّانُ الأرض الأصليون؛ ومن بِيضٍ، هم مجتمع الاستعمار الاستيطانيّ الذي أُجبر ــــ من خلال أشكال مقاومة متعدّدة وتضامن أمميّ استجاب لنداء مقاطعة الأبارتهايد ــــ على التخلّي عن عنصريّته وعن الامتيازات التي منحها نفسَه.
***
الدولة الديمقراطيّة ليست فكرة طوباويّة كما يدّعي البعض، بل هي من أرقى ما توصّلت إليه البشريّة حتى اللحظة. وقد تتطوّر إلى شكلٍ أرقى يتخطى فوارقَ وحدودًا أخرى. وهذا موضوعٌ آخر.
غزّة