رؤية نسوية سياسية في فلسطين: دولة واحدة لا دولتين

رفقة العمية – غزة

في فيلمٍ وثائقي عن حياة الفنانة والناشطة الأمريكية من أصل أفريقي نينا سيمون، كان قد وَثّق من خلال تسجيلاتٍ ومقابلاتٍ وحفلاتٍ أرشيفية من حياتها، أهمَ الأحداث المفصلية التي جعلت منها ناشطة في حركة الحقوق المدنية ضد العنصرية البيضاء في الولايات المتحدة- تم التركيز على أكثرها تأثيراً في حياة سيمون، ألا وهو رفض معهد كيرتس الموسيقي انتسابها بسبب بشرتها السوداء، وقد عبّرت في إحدى مقابلاتها عن أسفها عن عدم كونها أول عازفة كلاسيكية سوداء في العالم.

لقد أثرت هذه الحادثة العنصرية على حياة سيمون التي اضطرت فيما بعد للعزف في الحانات ثم كتابة كلمات الأغنيات وتأديتها، والتي تحوّل بعضها إلى أيقوناتٍ ثورية لشدّ ما لعبت دوراً بارزاً في إلهاب حماس السود واتحادهم لمقاومة عنصرية البيض تجاههم، ورفع ثقتهم بأنفسهم واكتشاف ذواتهم والاعتزاز بثقافتهم.

عاشت سيمون حياة طويلة رافقت فيها كل رموز النضال الأسود في الولايات المتحدة، وقبل وفاتها في العام 2003 بقليل، فوجئت سيمون بالمعهد الموسيقي ذاته يمنحها دبلوماً فخرياً. ما يجعلنا نتوقف قليلاً للتفكير في البنية العنصرية للعقل الكولونيالي، ما الذي حمل المعهد على التراجع والاعتذار؟ و ما الذي يمكنه أن يجعل قوة عنصرية بيضاء تتمتع بامتيازات خاصة وفوقية، على التفكير في حقوق المضطهدين؟

و لا جواب إلا أنه الإرث النضالي التراكمي للسود.

وبتوسيع الحديث عن نضال السوداوات من النساء على مر السنين، نجد أنفسنا نحن النساء الملونات الفلسطينيات مضطرات إلى تبني النظرية النسوية التقاطعية التي تعلمناها من نضالهن في تحدٍ لاحتكار النسوية وتفصيلها على مقاس نساء الطبقة المتوسطة البيضاء مع تجاهلٍ واضح لعنصري العرق والطبقة، بالإضافة للعامل الأهم ألا وهو الاستعمار، الذي لا نستطيع عزله عن سياقات نضالنا التحرري الاجتماعي، فالأبوية والرأسمالية والعبودية والاستعمار، جميعها قوى اضطهادية متعددة الخلفيات، أحادية السلوك القاهر للإنسانية، وعلينا مجابهتها من منطلق ضرورة التزامن في تفكيكها الجذري، وصولاً إلى عدالة شاملة، كاملة الانسجام والاتساق مع نفسها، ونابذة لجميع أشكال الاضطهاد والعنصرية والتمييز. 

و من هنا، من هذا المكان الذي يحتم علينا مجابهة الاستعمار العنصري، لتحقيق شمولية مطالبنا للعدالة، ومع الرجوع لتجربة سيمون، فإنه يتوجب علينا تحديد رؤية سياسية واضحة المعالم من خلال نضالنا من أجل الوصول إلى لحظة اعتذار الصهيونية.

تتصرف الأيديولوجيا الصهيونية في إسرائيل بمحرك أساسي يتجلى في القومية اليهودية الفوقية بذات الروح العنصرية التي تجلت في الجنوب الأمريكي وكذلك نظام الأبارتهايد في جنوب افريقيا.

والسؤال الآن.. هل ستتفكك هذه العقيدة وكيف ستقدم الصهيونية الاعتذار؟ ما هو التفكيك الذي نطمح إليه تحديداً؟ وماذا عن شكل المستقبل الذي نتخيله؟

مرّت الحركة الوطنية الفلسطينية بالعديد من التحديات والمتغيرات، وبعد أن كانت قد تبنّت مشروعاً تحررياً يشمل كل فلسطين التاريخية، فإنها سقطت في فخ الحلول المرحلية التي أجبرتها على التنازل المجحف والانجراف في سيل التفاوض وصولاً إلى توقيع إتفاقية أوسلو الكارثية بضغطٍ أمريكي، ثم ولادة سلطة حكم ذاتي فلسطينية على الأرض في محاولة من المجتمع الدولي لتسوية القضية وتسويق حلٍ لدولتين متجاورتين تعيشان في “سلام”.

 إن هذه السنوات الطويلة من التفاوض مع الاحتلال على دولتين: يهودية على 78% من مساحة فلسطين التاريخية، وفلسطينية على 22% المتبقية، لتضع المرء في حالة من الذهول، فهذا الحل الذي كان قد رفضه الشعب الفلسطيني من خلال احتجاجه على قرار التقسيم عام 1947 فضلا عن كونه غير عادل، قد أخذ من السنين أكثر مما يجب بلا أي طائل، وهو بكثيرٍ من الأسف لا يأخذ بالحسبان الفلسطينيين الذين يعيشون في الداخل المحتل تحت سطوة نظام عنصري فج وتمييز ممنهج لصالح اليهود الإسرائيليين. وهو لا يستثني فلسطينيي الداخل فقط بل ملايين اللاجئين في المخيمات والشتات أيضاً، وبالتالي فإن الشعب الفلسطيني بمفهوم حل الدولتين ونتاجاً لإتفاقية أوسلو هم الفلسطينيون الذين يعيشون في الأراضي المحتلة عام 1967 أي قطاع غزة والضفة الغربية. 

إضافة إلى ذلك، فقد جعلت إسرائيل من تحقيقه أمراً مستحيلا، وذلك بسبب تغولها الاستيطاني غير الشرعي المستمر في مناطق الضفة الغربية، إضافة إلى حصار قطاع غزة وضمّ القدس وتضييق الخناق على المقدسيين ما أحدث خراباً على الأرض يستحيل معه التغيير وفق الظروف الحالية، كذلك شتتت هذه السياسات الشعب الفلسطيني وحصرته في مناطق متفرقة ومنعزلة لكل منها همومها الخاصة التي لا تتلاقى مع هموم غيرها، وقد زاد الانقسام الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية الطين بلة.

 و مع تصاعد اليمين الفاشي في أمريكا و أوروبا وإسرائيل، وفشل الربيع العربي لدرجة إفراز حكومات عربية محابية لإسرائيل خوفاً على مصالحها تراجعت القضية الفلسطينية في أولوية الشأن العربي وصولاً إلى اختراق الإدارة الأمريكية في حقبة دونالد ترامب لبعض الأنظمة العربية وعقد اتفاقيات تطبيع بينها و بين إسرائيل كالإمارات والبحرين والسودان والمغرب، كل هذه المتغيرات حالت دون تحقيق حل الدولتين غير العادل أصلا، و الذي لا يرقى لمستوى تضحيات الشعب الفلسطيني وإرثه النضالي الطويل. 

و بالنظر إلى تجارب الشعوب المستعمرة والمضطهدة، ومع إضفاء خصوصية القضية الفلسطينية يمكننا نحن الفلسطينيات تخيل مستقبل أكثر عدالة يتوافق بشكل منسجم مع أفكارنا التحررية الشاملة، المبنية على المساواة بين جميع البشر. 

فأيّ رؤية تحررية أجدى من فكرة النضال من أجل دولة ديمقراطية واحدة لكل مواطنيها في فلسطين التاريخية بغض النظر عن الدين أو العرق أو الجنس؟

من حقنا المشروع أن نعود لمشروعنا التحرري الأول، وهو تحرير كامل تراب فلسطين من البحر إلى النهر من سطوة الكيان الاستعماري الاستيطاني العنصري المتمثل في دولة إسرائيل، و كما تفكك نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا وانتخب الشعب الجنوب الأفريقي نيلسون مانديلا أول رئيس أسود للبلاد بعدما كان معتقلاً سياسياً في السجون فإننا نطمح لتفكيك الأبارتهايد الإسرائيلي، وتخلّي المستعمرين وأبنائهم عن امتيازاتهم، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم الأصلية وتعويض أبنائهم وأحفادهم، وإقامة دستور مدني ديمقراطي يضمن الحقوق الثقافية والاجتماعية والدينية لجميع مواطني فلسطين التاريخية بعد توزيع الثروة بنظام عادل يضمن زوال الأبارتهايد إلى غير رجعة.

قد يبدو هذا السيناريو خيالياً بعدما تشوهت مخيلتنا التحررية بعقيدة حل الدولتين الذي أصبح وهمياً بالضرورة، لكن بقليلٍ من الحسّ النقدي الثوري نجده مشروعنا الوحيد الذي يضمن أهم حقوقنا الأساسية بما يتضمنها حق العودة وحق تقرير المصير. وبتحالف الفلسطينيين مع الإسرائيليين المناهضين للصهيونية والمتوافقين معهم في مقاومة مشتركة لنظام الأبارتهايد الكولونيالي والداعمين لحق العودة للاجئين الفلسطينيين والمستعدين للتنازل عن امتيازاتهم كأبناء وأحفاد المستعمرين، وبدعم شعوب العالم وتكثيف المقاومة الشعبية وعلى رأسها العمل بكل قوة للدفع نحو عزل إسرائيل كما تفعل حركة المقاطعة العالمية ذات القيادة الفلسطينية من أجل كشف عورة الأبارتهايد الإسرائيلي للعالم، لاسيما أن القانون الدولي يدين تهمة الأبارتهايد ويجرّمها، بهذا كله نستطيع ليس فقط تحرير الشعب الفلسطيني المضطهَد بل أيضاً تحرير المضطهِدين المستعمِرين، الذين لن يُخلق هذا الشرخ في وعيهم الجمعي بسهولة ولن يتنازلوا عن امتيازاتهم الاستعمارية طواعية،  بل كما كل القوى الاستعمارية في العالم، لن يحملهم على ذلك سوى إرثنا التراكمي النضالي الفلسطيني وفق برنامج واضح يحظى بالتفاف عريض وحاضنة شعبية داعمة، تستفيد من كل ما يمكنه أن يدعم توجهاتها سواء من القانون الدولي أو تجارب الشعوب السابقة أو دعم المناصرات/ين من حول العالم. 

 و هذا هو آخر أمل يضمن الاعتذار لنينا سيمون الفلسطينية، التي تناضل من أجل العدالة منذ أكثر من سبعين عاماً.