دولة واحدة في فلسطين التاريخية والقانون الدولي

د. منير نسيبة

مقدمة

في الجدال الدائر حول حل القضية الفلسطينية، وفي ضوء الظلم الذي قد يشكله حل الدولتين إذا رأى النور يوماً ما، يعتقد الكثيرون أن إنشاء دولة واحدة في فلسطين الانتدابية مخالف للقانون الدولي. ينبع هذا الاعتقاد، فلسطينياً، من الخطاب الذي ساد منذ جنوح منظمة التحرير الفلسطينية إلى خيار التقسيم حيث فسر الكثيرون أن تقسيم فلسطين جاء نتيجة الإرادة الدولية الذي عبر عنها من خلال قرار التقسيم عام 1947 وبالتالي فإنه يشكل جزءاً من القانون الدولي. تأتي هذه المقالة لمناقشة هذا الأمر، مستنتجةً أن الدولة الواحدة ليست مخالفة للقانون الدولي، بل على العكس، هي أفضل الطرق لتطبيق القانون الدولي. 

الخلفية- تقسيم فلسطين فعلياً وإنشاء دولتين

مع اقتراب انهزام الدولة العثمانية على يد الحلفاء، احتلت المملكة المتحدة فلسطين عام 1917  ثم حصلت على تفويض من عصبة الأمم عام 1923 لتصبح سلطة انتداب على أراضي فلسطين. وفي عام 1947، بدأت المملكة المتحدة بالتجهيز لإنهاء انتدابها والانسحاب من فلسطين، فطلبت من الأمم المتحدة أن تتدخل في تقرير مستقبل فلسطين، التي كان واضحاً أن المملكة المتحدة ستتركها فريسة الصراع العرقي والديني. وبناء على هذا الطلب، أنشأت الأمم المتحدة لجنة خاصة لبحث سبل لحل المسألة الفلسطينية، والتي قدمت حلين مقترحين، الحل الذي رآه غالبية الأعضاء بأن يتم تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة يهودية (أي دولة يكون أغلب سكانها يهوداً) والثانية عربية (أي يكون أغلب سكانها عرباً). أما الحل الثاني المدعوم من الأقلية، فقد كان بأن تقوم دولة واحدة فيدرالية عاصمتها القدس. 

وبناء على ذلك، قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإصدار قرار 181 لعام 1947، والذي أوصى بأن تقام دولتان في فلسطين، يهودية وعربية، وأن يتم حكم القدس عبر نظام إداري دولي، وأن يكون للدولتين اتحاد اقتصادي.

ليس هناك شك بأن هذا المقترح كان من ناحية فريداً، ومن ناحية أخرى منافياً للقانون الدولي. ذلك أن الأمم المتحدة ليست إلا منظمة دولية، أي أنها تجمع للدول التي تختار أن تكون أعضاء فيها، لتحقيق أهداف معينة. ليس من حق هذه المنظمة خلق دول جديدة، أو تقسيم أقاليم موجودة إلى دويلات. فإنشاء الدول في القانون الدولي يتأتى من عناصر مادية، وهي أن يكون هناك إقليم معين من الأرض، تسكن عليه مجموعة من الناس، وأن يكون هناك نظام يحكم هذه الأرض ويعبر عن السيادة فيها. وإذا قامت دولة ما، فإن من حقها أن تتصرف كدولة وأن تنضم إلى المنظمات الدولية وتعقد المعاهدات وتمارس السيادة. أما المنظمات الدولية، ومنها منظمة الأمم المتحدة، فهي ليست صاحبة السيادة على الدول، ولا يمكنها تقسيم أو إنشاء دول. يجدر القول هنا أن هذه التوصية لم تكن ملزمة، بل إنها مجرد توصية. فجميع قرارت الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست ملزمة. 

بعيد قرار التقسيم، اندلعت حربٌ بين التنظيمات الصهيونية المختلفة التي كانت مسلحة ومتأهبة للحرب من ناحية، وبين الفلسطينيين الذين كانوا أقل تنظيماً وعتاداً، ثم انضمت بعض الجيوش العربية في منتصف أيار من العام 1948 لتشارك في حرب فلسطين. خلال هذه الحرب، أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل، وبنت شرعية هذا الإعلان على قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، فحصلت على اعتراف من عدد لا بأس به من الدول، ثم نجحت بالانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة عام 1949.

 وفي أيلول 1948، أعلنت القيادة الفلسطينية قيام دولة فلسطين، حيث حددت حدودها بحدود فلسطين الانتدابية، وأنشأت حكومة أطلقت عليها اسم “حكومة عموم فلسطين” لإدارة شؤون البلاد، إلا أن هذه الحكومة لم تنجح بشكل فعلي في أداء مهامها بسبب عدم توفر الدعم من الدول العربية التي كانت تسيطر فعلياً على الأرض الفلسطينية التي كانت خارج حدود السيطرة الصهيونية. 

وفي عام 1988، أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الجسم الذي مثل الفلسطينيين بعد انتهاء دور حكومة عموم فلسطين، أعلنت دولة فلسطينية مجدداً، ولكن هذه المرة بنت إعلانها على قرار التقسيم. يبدو أن هذا الإعلان جاء تجاوباً مع الواقع السياسي الدولي، فأغلب الدول في العالم لم تعترف بالدولة الفلسطينية التي أعلنت عام 1948 لأن هذا يتناقض مع اعترافهم بدولة إسرائيل التي أقيمت على حوالي 78% من أراضي فلسطين. وبما أن دولة حكومة عموم فلسطين لم تعترف بشرعية إسرائيل، وقف هذا الأمر حجر عثرة أمام حصولها على اعتراف دولي بشرعيتها. فجاء الإعلان الثاني الواقعي، يعترف بتقسيم فلسطين ويؤسس لدولة فلسطينية جديدة تحاول أن تكسب “الشرعية الدولية” إلى صفها. وفي عام 2012، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تمنح دولة فلسطين صفة دولة مراقب، غير عضو، في الأمم المتحدة، مما أتاح لفلسطين الانضمام إلى عدد من المعاهدات والمنظمات الدولية، شأنها شأن الدول الأخرى في هذا العالم.

من الناحية القانونية، يمكننا الجزم أنه هناك ثمة دولتان في فلسطين الانتدابية: إسرائيل وفلسطين، على الرغم من ضعف دولة فلسطين من الناحية العملية وعدم قدرتها على ممارسة سيادتها الكاملة. فكلا الدولتين قام بناء على العناصر المادية المنشئة للدول حسب معاهدة مونتيفيديو لعام 1933، وهي الأرض والشعب وممارسة السلطة، بالإضافة إلى القدرة على ممارسة العلاقات مع الدول. لا يعني هذا أن لهتين الدولتين حدود معروفة، فإسرائيل مارست سيادتها على المناطق التي سيطرت عليها عسكرياً خلال حرب 1948، ثم مدت سيادتها إلى أجزاء من الأرض المحتلة عام 1967 بشكل مخالف للقانون الدولي. وحريٌّ أن نذكر أن حدودها الأولى التي نشأت عليها بعد حرب ال1948 لم تكن إلا خطوط وقف إطلاق نار، لا تعبر بأي شكل عن حدود دولية. أما دولة فلسطين، فهي تطالب أن يكون الاعتراف بأن حدود دولتها هو ما احتلته إسرائيل سنة 1967، إلا أن الغالب في العلاقات الدولية هو أن حدود الدولتين لن يقر بشكل نهائي إلا بعد التفاوض والاتفاق عليه في معاهدة سلام، لا يبدو أنها قريبة. 

وعلى الرغم من ميلاد الدولتين من وجهة نظر القانون الدولي والاعتراف بكلتيهما على نطاق واسع، إلا أن هتين الدولتين، حتى وان اتفقتا على الحدود في يوم من الأيام، فإن الغالب أنهما ستجانبان تطبيق بعض أهم مبادئ القانون الدولي فيما يتعلق بعودة اللاجئين وتقرير المصير، مما لا يتخيل أن يطبق إلا من خلال دولة واحدة وهو ما سنناقشه في المبحث القادم.

مسألتي العودة وتقرير المصير

خلال حرب عام 1948، هجرت العصابات الصهيونية 80% من سكان الأرض التي سيطرت عليها إسرائيل بعد الحرب ومنعتهم من العودة باستخدام نظامها القانوني وأجهزتها الأمنية، مشكلة أزمة لاجئين ضخمة، لا يزال العالم يتعامل مع آثارها حتى اليوم. وقد أكد المؤرخون الفلسطينيون والإسرائيليون الجدد على أن هذا التهجير كان قسرياً ومقصوداً، وأن الهدف منه كان إفراغ الأرض من سكانها الأصليين حتى تتحقق الأغلبية اليهودية في الدولة الجديدة. وفعلاً، فإنه منذ النكبة (وهو المصطلح الذي يستخدمه الفلسطينيون لنعت التهجير وفقدان الوطن) تمكنت إسرائيل من الحفاظ على أغلبية مواطنين يهودية ملموسة، مما سمح لها أن تبقي على نظامها العنصري ضد غير اليهود، بل أن تزيد من عنصريته ليصبح نظام أبارتهايد يعامل فيه الناس حسب قوانين وأنظمة حقوق مختلفة. 

شكل هذا التهجير مخالفة واضحة للقانون الدولي، إذ أن هذا القانون كان قد استقر مع نهاية الحرب العالمية الأولى على تجريم الأعمال الوحشية، ومنها طرد السكان المدنيين من ديارهم. ففي محاكمات نورمبرغ التي حوكم فيها قادة النازية، جرم الإبعاد وحوكم بعض المتهمين به. وبعد ذلك، استمر القانون الدولي بمنع وتجريم الإبعاد والنقل القسري للسكان المدنيين، كما اعترف على الإطلاق بحق اللاجئين والنازحين أن يعودوا إلى ديارهم. وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذا المبدأ، إذ أنها أصدرت قراراً كاشفاً لما يمليه القانون الدولي عام 1948 (قرار 194) حيث طالبت إسرائيل بتعجيل السماح للاجئين بالعودة. 

إلا أن إسرائيل قد رفضت هذا الأمر على الإطلاق، كما أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، حسب ما تم تسريبه من بروتوكولاتها، أفضت في مرحلة ما إلى القبول بعدم العودة، والمطالبة بعودة رمزية فقط لعدد محدود من اللاجئين في مخالفة للقانون الدولي. فإذا حصل هذا الاتفاق، فإنه سيكون منعدم الأثر، حيث أن الدول إذا اتفقت على مخالفة القواعد الآمرة في القانون الدولي، كان ذلك الاتفاق كأن لم يكن،  من وجهة نظر القانون. لقد صنف حق عودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم كحق فردي، لكل لاجئ ونازح الحق بممارسته أو الامتناع عنه بإرادته المنفردة، ومن دون ممارسة هذا الخيار، يبقى اللاجئون في انتطار ممارسة حقهم القانوني بالعودة والتعويض أو عدمها.

ومن ناحية أخرى، ثمة مشكلة في مفهوم تقرير المصير فيما يتعلق بالدولتين. فإسرائيل عرفت نفسها على أنها دولة يهودية، أتت لتحقيق ما تسوق على أنه حق تقرير المصير “للشعب اليهودي” أنى كان. فهي ليست بدولة قومية عادية، بل هي دولة اليهود، ولم تكتفِ بخلق الأغلبية اليهودية باستخدام جريمة الطرد، بل ألحقت ذلك في عام 2018 بالقانون الدستوري الذي نص على أن حق تقرير المصير هو حكر على اليهود دون غيرهم. وليس حرمان اللاجئين من العودة، والقمع المستمر الممارس ضد الفلسطينيين في الوطن إلا وسائل إضافية لمنع الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بالشكل الذي ينص عليه القانون الدولي.

أما دولة فلسطين في حدودها الصغيرة، فإنها، ولو تحررت من الاحتلال، لن تجيب على مسألة تقرير المصير للشعب الفلسطيني. فموطن اللاجئين الأصلي هو الأرض التي سيطر عليها النظام الصهيوني عام 1948، وليس الضفة ولا غزة. 

كل هذا يظهر أنه على الرغم من وجود دولتين على أرض الواقع، إلا أن الشرعية تعوزهما بسبب مسألتي العودة وتقرير المصير. فالقانون الدولي يسمح بتقسيم الدول ويقر حق تقرير المصير للشعوب، إلا أنه لا يقر تهجير الناس لإقامة دول متجانسة دينياً أو عرقياً أو قومياً، بل هو يحرم ذلك من دون شك. لذا، فإن استمرار وجود الدولتين على أساس تجميع اليهود في واحدة والعرب في الثانية فيه من العنصرية ما ينزع الشرعية عن هذه الدول. فاليهود لا يملكون حق تقرير مصير منفصل عن غيرهم ممن يسكنون نفس الأرض. بالإضافة إلى ذلك، فإن اليهود من غير القاطنين في فلسطين لا يتمتعون بالمشاركة بحق تقرير المصير. فهذا الحق يمارس فقط من خلال سكان إقليم معين بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو دينهم.

الدولة الواحدة والقانون الدولي

على الرغم من نشوء دولتين على أرض فلسطين، إلا أنه ثمة ثغرات عميقة في الشرعية القانونية الدولية لهتي ن الدولتين. فالنظام الصهيوني الذي أقام دولة إسرائيل أنشأها كدولة عنصرية تحرم غير اليهود من تقرير مصيرهم. أما دولة فلسطين المحتلة، فإنها تسوق على أنها حل جزئي لمشكلة دولية، لا تقدم ما يكفي من ضمانات الشرعية القانونية لشعبها أو غيره، خصوصاً إذا فشلت بتسهيل عودة اللاجئين إلى ديارهم. قد لا يكمن الحل في إضفاء الشرعية إلا في حل يجمع إقليم فلسطين الانتدابية في دولة واحدة، يكون مواطنوها من الفلسطينيين واليهود، حيث تسمح بعودة اللاجئين إلى ديارهم ثم تفتح المجال لعموم الفلسطينيين واليهود بممارسة حقهم المشترك بتقرير مصيرهم، بدون تمييز على أي أساس. لا شك أن في ذلك تنفيذ أكبر للقانون الدولي، إذ أنه يجبر الضرر عن ضحايا التهجير، ويسمح لأول مرة للجميع بممارسة حق تقرير المصير كما ينص عليه القانون الدولي. 

د. منير نسيبة هو أكاديمي حقوقي من جامعة القدس في فلسطين، وهو أستاذ مساعد في كلية الحقوق في جامعة القدس، بالإضافة إلى شغله منصب مدير (وأحد مؤسسي) عيادة القدس لحقوق الإنسان في كلية الحقوق في جامعة القدس، وهو مدير مركز العمل المجتمعي في البلدة القديمة في القدس.
يحمل درجة البكالوريوس في القانون من كلية الحقوق في جامعة القدس، والماجستير في القانون الدولي من كلية واشنطن للقانون في الجامعة الأميركيّة في واشنطن، ودرجة الدكتوراه من جامعة وستمنستر في لندن، حيث ركزت رسالته على التهجير القسري في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والقانون الدولي والعدالة الانتقالية.