خطاب عوض عبد الفتاح أمام الكتلة البرلمانية للمؤتمر الوطني الأفريقي

فيما يلي خطاب عوض عبد الفتاح، السكرتير العام للتجمع الوطني الديمقراطي، امام الكتلة البرلمانية للمؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) في جنوب افريقيا

أنشر هنا في الكامل محاضرة عوض عبد الفتاح (من تاريخ 10\9\2015) كمساهمة في البحث على سبل الخلاص من الأزمة التي تعيشها حركة التحرر الفلسطينية. وأدعو القراء لكتابة التعليقات أو لنشر مواقفهم لمتابعة هذا الحوار الضروري.

(بامكانكم قراءة النص باللغة الانجليزية أيضًا)

* * *

صباح الخير أيها الأصدقاء والرفاق

نائب الرئيس، سيريل رامافوسا

رئيس الجمعية الوطنية، باليكا مبيتي

رئيس المجلس الوطني للمقاطعات، تاندي موديسي

حامل السوط الرئيسي، ستون سيزاني

مع حفظ الألقاب للجميع

أنا متأثر جداً لكوني هنا، في هذا البرلمان بينكم، أنتم الذين تشكلون دائماً مثالاً مُلهماً لشعوب كثيرة في أنحاء العالم، ومن ضمنها شعبي. الذي يناضل منذ أكثر من مائة عام من أجل التحرر من نظام الأبارتهايد الكولونيالي الإسرائيلي. إن هذه الفرصة التي أتحتموها لي لمخاطبتكم مباشرة عن التطورات الأخيرة في النضال الفلسطيني تملئني بالغبطة والأمل- الأمل في أننا نستطيع تعزيز التعاون المتبادل من أجل تحقيق العدالة والحرية لشعبنا.

وعندما أجيء إلى جنوب أفريقيا أشعر بأنني وصلت إلى وطني الثاني. أشعر، ومعي فلسطينيون آخرون، وأيضاً مناضلون من أجل الحرية في العالم، بمعنى الروح الرفاقية مع شعب جنوب أفريقيا.

أشعر أنني مرتبط روحانياً بشعب جنوب أفريقيا العظيم، وبرحلتهم الطويلة والشاقة من أجل التحرير. لقد أصبحت الأسماء المقرونة بهذا النضال جزءاً لا يتجزأ من ذكرياتنا الفردية والجماعية: نيلسون مانديلا، سيسولو، أحمد كاثرادا، ستيفن بيكو وآخرون كثيرون. هؤلاء عانوا سنوات طويلة في السجون أو قُتلوا أو جرى اغتيالهم، أو واصلوا بشجاعة المسيرة نحو العدالة الاجتماعية والتطور المستقل. ومن كل هؤلاء القادة العظماء، ومن النضال البطولي الذي خاضه شعب جنوب أفريقيا، نحن نستمد الأمل والشجاعة وقوة الاستمرار في نضالنا من أجل تحرير فلسطين وبناء مجتمع ديمقراطي يستطيع فيه الجميع – الفلسطينيون العرب والإسرائيليون – العيش في مساواة كاملة.

لا أحد في الحركة الوطنية الفلسطينية ينسى الوعد الصادق والمخلص من قبل الرفيق القائد الراحل نلسون مانديلا، القائل بأن حرية جنوب أفريقيا ستبقى غير كاملة إلى أن تتحرر فلسطين.

إن سقوط نظام الأبارتهايد عام 1994، بفضل النضال البطولي الذي خاضه شعب جنوب أفريقيا، والقيادة المتزنة والحكيمة، والتضامن الدولي، هو لحظة عظيمة سعيدة بالنسبة لي شخصياً ولكل فلسطيني، وكذلك بالنسبة لكل شخص عاشق للحرية في الأسرة العالمية.

اعتبر الفلسطينيون هذا الانتصار خطوة كبيرة نحو إزالة الظُلم في العالم، بما في ذلك آخر نظام كولونيالي في عصرنا، وهو القائم في فلسطين. كانت نضالات شعبنا من أجل الحرية والتحرر من النظام الصهيوني أكثر تضافراً في ذلك الوقت. وفي الحقيقة، البعض منا، مثل ادوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الأمريكي الشهير، كان قد تساءل حتى في ذلك الحين: هل لدينا قيادة مثل أولئك الذين قادوا شعب جنوب أفريقيا إلى الحرية.

نحن نذكر أن نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا اقترح ذات مرة على قادة المؤتمر الوطني الأفريقي صفقة مشابهة لتلك التي عرضت على الفلسطينيين في اتفاقيات أوسلو عام 1993. وقد رفض المؤتمر الوطني الأفريقي بحكمه سياسة مثل هذه الصفقة. وأما القيادة الفلسطينية فقد قبلت اتفاقية أوسلو، معتبرة إياها في ذلك الوقت خطوة نحو الدولة المستقلة. وبدلا من ذلك، مأسست هذه الاتفاقية الأبارتهايد والكولونيالية والطرد والسلب والقتل المتعمد لأبناء شعبنا. واعتقدت القيادة الفلسطينية أن أوسلو كانت الطريق الوحيد للخروج من المأزق الذي وصلت إليه الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد الخروج القسري من بيروت، إثر الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. لقد جرى توقيع الاتفاقيات على مَرجة العشب الأخضر في البيت الأبيض وتم الاحتفال بها بأسلوب هوليووديّ. وقد استقبل ياسر عرفات، قائد منظمة التحرير الفلسطينية، بحفاوة لدى عودته إلى غزة. الكثيرون أمِلوا بأن تكون هذه الاتفاقيات اختراقاً وتقدماً حقيقياً.

ومع مرور السنين أصبحت نوايا ومقاصد النظام الكولونيالي الإسرائيلي واضحة أكثر: استمر الاستيطان في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة بوتيرة أسرع؛ وبدا الحل النهائي المنشود فلسطينياً بعيداً أكثر من ذي قبل.

كان الشعور بالتضليل والخداع والغدر من قبل إسرائيل كبير جداً لدى قيادة التيار الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية. وبلغ الغضب والإحباط مستويات لم يسبق لها مثيل. ازداد الوضع سوءاً بعد فشل قمة كامب ديفيد عام 2000م. التي رعتها الولايات المتحدة، الوسيط غير النزيه، في التوصل إلى اتفاقية، مما أضاف زيتاً على النار. كانت شرارة واحدة كافية لإشعال المنطقة بأكملها – وهذه الشرارة  وفرها دخول أريئيل شارون سيء الصيت المسجد الأقصى في 28 أيلول من العام نفسه.

هذا الحدث الدراماتيكي (دخول الأقصى) “بشّر” باندلاع الانتفاضة الثانية، التي اتخذت، وبشكل مضلل، مظهر المواجهة بين جيشين وتمخضت عن استشهاد أكثر من 5000 فلسطيني ومقتل أكثر من ألف إسرائيلي. هذا الانفجار الهائل انتشر بسرعة ليصل إلى الفلسطينيين في إسرائيل، ويتحول إلى هَبّة عارمة لم يسبق لها مثيل من حيث الشمولية والطول والكثافة؛ استمرت ثمانية أيام دامية، قبل أن تسحقها قوات الشرطة الإسرائيلية بوحشية، مؤدية إلى مقتل 13 مواطناً فلسطينياً وإصابة المئات بجروح. لقد تعامل نظام الأبارتهايد الإسرائيلي مع المواطنين الفلسطينيين باعتبارهم أعداء أو جزء من الجبهة الفلسطينية الواسعة.

لقد مرّ الكثير من الوقت لكي يستوعب العالم حقيقة ما كان يجري. الكثيرون في الأسرة الدولية افترضوا أن المشكلة الفلسطينية كانت في طريقها نحو الحل. وبعض الأطراف الدولية اتهمت القادة الفلسطينيين بأنهم كانوا يخرقون اتفاقيات أوسلو. ونتيجة لذلك أساءت تماماً الأسرة الدولية فهم الهجوم الضاري الإسرائيلي على الفلسطينيين. كما أن الكثير من مؤسسات المجتمع المدني، التي كانت متعاطفة مع المسألة الفلسطينية، أوقفت نشاطاتها ضد السياسات الإسرائيلية.

في أعقاب موت ياسر عرفات المكتنف بالأسرار عام 2004، والذي لا تزال إسرائيل تعتبر المشتبه الرئيسي به، توقفت الانتفاضة. واستؤنفت عملية السلام مع قيادة جديدة اعتبرها الأمريكيون أنها أكثر اعتدالاً من القيادة السابقة برئاسة عرفات، ويُمثل هذه القيادة الرئيس الحالي، محمود عباس.

أعربت القيادة الجديدة عن معارضتها للانتفاضات الشعبية وتبنّت المفاوضات كطريق معبر نحو السلام وتمسكت بها بشدة. وتحت مظلة مسيرة السلام، قام الجنرال الأمريكي، كيث دايتون، بتدريب الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بهدف المحافظة على الهدوء في المناطق الفلسطينية المحتلة وقمع أي شكل من أشكال المقاومة. وأصبح التعاون الأمني مع إسرائيل جزءاً لا يتجزأ من هذه العقيدة. كما قامت ولا تزال الولايات المتحدة وأوروبا بتقديم المنح والهيئات لخزينة السلطة الفلسطينية من أجل المحافظة والإبقاء على عملية السلام كهدف بحد ذاته. السلطة الفلسطينية خضعت وأذعنت للإملاءات الأمريكية، معتقدة وبشكل ساذج بأنها ستستحق الدولة المستقلة في نهاية المطاف. هذه التنازلات المُذلة لم تؤدِ إلى تغيرات في السياسة الإسرائيلية، بل عززت جشع إسرائيل في المزيد من الأرض.

في استغلالها لعملية السلام، رسخت إسرائيل الاستيطان في الضفة الغربية وفي القدس وشدّدت حصارها لقطاع غزة. وقامت ببناء جدار الفصل العنصري الذي ابتلع الكثير من الأراضي وفرّق وفصل ما بين التجمعات الفلسطينية، مولّداً جيوباً معزولة. وتحت غطاء ما يسمى عملية السلام ازدادت معاناة الفلسطينيين بشكل كبير. كما سببت الحروب الثلاثة الضارية التي شنتها إسرائيل منذ عام 2009 ضد الفلسطينيين المسجونين في قطاع غزة إلى مقتل وجرح آلاف الفلسطينيين. وهدم آلاف البيوت.

جميع جرائم الحرب وسلب الأراضي وعنف المستوطنين مرت بدون عقوبة. وما يسمى الأسرة الدولية، وبشكل خاص الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية، واصلت وتواصل دعمها لإسرائيل بدون خجل، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وهي مسؤولة أخلاقياً وعملياً عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية. وهذه الحكومات تعمل وتتصرف ضد إرادة مواطنيها ومؤسسات المجتمع المدني فيها، علماً بأنهم أبدوا في مناسبات كثيرة اشمئزازهم إزاء سلوك إسرائيل البربريّ تجاه الشعب الفلسطيني وينظمون المظاهرات الحاشدة نصرة لقضية فلسطين.

تأثيرات أوسلو

بعد مرور 20 عاماً على صناعة السلام، استيقظ الفلسطينيون على واقع أشد قساوة. لم يحرروا أرضهم ولم يحققوا الدولة، كما لم يحتفظوا بأداة التحرير المتمثلة بمنظمة التحرير، التي جرى تفريغها من مضمونها واستقلاليتها وأصبحت تابعة للسلطة الفلسطينية.

ولا يقتصر الأمر على ذلك. فالصراع الكولونيالي الاستيطاني جرى اختزاله إلى نزاع إقليمي في نظر العالم إذ يجري تصوير المشكلة وكأنه نزاع بين طرفين متساويين، مع أنها في الحقيقة نزاع بين نظام كولونيالي بربري وشعب مُستَعمَر. وبالتالي فإن الواقع القائم هو وجود دولة يهودية كولونيالية ودولة فلسطينية افتراضية فقط.

تحت الضغط الدولي وسوء تقدير الحسابات الداخلية اقتيدت القيادة الفلسطينية أو تمَّ جرّها إلى مَصيدة تسمى أوسلو: اليوم يواجه القادة وطناً مستعمراً بالكامل تقريباً، مُشظّى جغرافياً وديمغرافياَ. لقد تُرِكوا تقريباً بدون أدوات للتحرير (منظمة التحرير بمضمونها التحرري والعديد من الاتحادات والمنظمات الشعبية الفاعلة). إضافة لذلك فإن قيم حركة التحرر الوطني قد تآكلت. الكثير من المجتمع الفلسطيني أصبح فردانياً ومجزءاً وجرى إخضاعه لنمط الاقتصاد النيوليبرالي المشوه، وتُرك بدون مُثل أعلى تُحرّكه. لا توجد هناك قيادة جديرة بالثقة ولا رؤية مشتركة. والأمر الذي جعل وضع الفلسطينيين أسوأ مما كان هو الانقسام العميق بين الحركتين الرئيسيتين: فتح وحماس. محاولات المصالحة الفاشلة عززت فقط مشاعر الإحباط واليأس.

الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، التي تبنت دائما استراتيجية ترمى إلى تجزئة الشعب الفلسطيني كوسيلة للسيطرة الكولونيالية، عملت وبشكل منهجي للإبقاء على الصدع الكارثيّ بين الحركتين الأساسيتين.

إن  إسرائيل التي تتحدر باستمرار واضطراد إلى أقصى اليمين، إلى العنصرية غير المخفية، وباتجاه خيار الطرد والتطهير العرقي، هي الآن وبشكل صريح ضد حل الدولتين الذي يدور الحديث عنه منذ وقت طويل.

المراقبون يناقشون ويقولون أن الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية عام 1967 هو الاحتلال الأرخص في تاريخ الاستعمار. وتستفيد القيادة الإسرائيلية أيضاً من أربعة عوامل:

  1. غياب النضال الشعبي الجماهيري.

لقد جرى تحويل السلطة الفلسطينية إلى مقاول ثانوي للاحتلال الإسرائيلي. ولم تحترم هذه السلطة القرار الذي اتخذه المجلس المركزي لمنظمة التحرير في العام الماضي بوقف التعاون الأمني مع إسرائيل.

  1. غياب رد الفعل القوي من قبل الأسرة الدولية، واستمرار وزيادة الدعم الأمريكي لإسرائيل. وهذا الأمر يوفر بشكل فعلي الغطاء لجرائم إسرائيل والاستيطان المستمر في الأراضي الفلسطينية.
  2. غياب الوحدة الوطنية، واستراتيجية مقاومة موحدّة، وهدف مشترك باستطاعته توحيد جميع شرائح الشعب الفلسطيني.
  3. الفوضى التي اجتاحت العالم العربي جرّاء فشل الجولة الأولى في الانتفاضات العربية، والتي تحولت إلى كابوس، خصوصاً في أعقاب تدخل الأنظمة الامبريالية والرجعية العربية  وظهور المنظمات الجهادية المتوحشة.. هذه الأنظمة الدكتاتورية المستبدة تكافح الآن من أجل بقائها، وبناء على ذلك، دفعت القضية الفلسطينية إلى مؤخرة أجنداتها.

نقاط مضيئة

من داخل هذا الواقع القائم هناك نقاط ضوء هامة:

الأولى: انبعاث حركة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني منذ انطلاق حملة المقاطعة التي يقودها الفلسطينيون عام 2004. وقد اكتسبت هذه الحركة بشكل خاص زخماً كبيراً ومتزايداً في أوساط المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد قللت إسرائيل حتى عهدٍ قريب من أهمية تأثير المقاطعة ونزع الاستثمارات والعقوبات وأمِلت في تجاهلها. ولكن حين وصلت إلى الجماهير الواسعة ونما وتعاظم تأثيرها، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى توظيف موارِد بشرية ومالية لمواجهتها.

سبب ثانٍ للتفاؤل: إحياء النضال الشعبي

على الرغم من أنه لا يزال محدوداً جغرافياً ومن حيث الحجم، فإن الانتفاضة الصغيرة في القدس وضواحيها في العام الماضي 2014 كانت من ضمن المؤشرات اللافتة للنظر إلى إحياء النضال الشعبي. استمرت هذه الانتفاضة عدة أيام في أعقاب طعن طفل فلسطيني وحرقه وهو حي. كما أن مناطق عديدة في الضفة الغربية جرت وتجري موجات متكررة من الاحتجاجات السلمية وهجومات مسلحة متفرقة وفردية ضد أهداف إسرائيلية، خاصة بعد تصعيد الاعتداءات على المسجد الأقصى وتعميق التهويد والحصار لمدينة القدس. وكان بإمكان هذه المواجهات أن تمتد إلى مناطق أخرى وأن ترتقي إلى انتفاضة شاملة لولا قوات أمن السلطة الفلسطينية التي قمعت هذه الاحتجاجات. كل ذلك مرشح أن يتسع.

نقطة ثالثة:  عودة النقاش حول الدولة الواحدة

ثمة جهود ومبادرات ناشطة لإعادة بناء الخطاب الوطني الفلسطيني وتعريف الصراع من جديد، وإعادة اعتباره صراعاً كولونيالياً استيطانياً وليس صراعاً على حدود. يشارك في هذه المبادرات ناشطون، وأكاديميون، وشباب طلائعيون من كل تجمعات الشعب الفلسطيني، من ضمن ذلك الفلسطينيون الذين يعيشون داخل حدود إسرائيل لعام 1948. وتجدر الإشارة إلى حقيقة بأن الكثيرين من الذين كانوا قد التزموا بحل الدولتين وناصروا هذا الحل منخرطون الآن في هذا الجدال والبحث أيضاً. هؤلاء المبادرون إلى هذا البحث مدفوعون بالخوف من كون المشروع الوطني الفلسطيني بل الهوية الفلسطينية في خطر حقيقي وبشعور مُلّح بالنسبة لأهمية إحياء وبناء الخطاب الوطني الفلسطيني الذي يقوم على الحقوق التاريخية قبل فوات الأوان.

نقطة رابعة: تأثير المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل

إن نجاح الأحزاب السياسية الفلسطينية في إسرائيل في التوحد وتشكيل قائمة فلسطينية مشتركة في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة هو أمر استثنائي في المشهد السياسي الفلسطيني، بل وحتى في العالم العربي الأوسع.

وقد برزت القائمة العربية المشتركة بعد الانتخابات باعتبارها القوة السياسية الثالثة في البرلمان الإسرائيلي. وحدتنا هذه فاجأت وأدهشت الكثيرين  ومن ضمنهم أشقاؤنا في الأراضي المحتلة عام 67 وأولئك الموجودون في الشتات. وقد يكون ذلك بتأثير احباطاتهم من فشلهم في تحقيق الوحدة، وليس فقط بتأثير إدراكهم للثقل المتنامي لهذا الجزء من شعب فلسطين في الصراع… والآن لا تستطيع الأسرة الدولية أن تستمر في تجاهل حالة ومأزق هذا الجزء المنسي والمهمل طويلاً من الشعب الفلسطيني، الذي يشكل 20% من مجمل السكان في إسرائيل.

ومن الضروري أن ننتبه أن هناك شعوراً متنامياً بأن الفلسطينيين الباقين داخل إسرائيل يقتربون من نقطة التحول.

الفلسطينيون في “إسرائيل”

لم تنشأ القائمة العربية المشتركة من فراغ. إنها الحلقة الأخيرة في سلسلة التطورات السياسية والثقافية التي مرت بها “الأقلية الفلسطينية” في إسرائيل، المكونة من 1.4 مليون شخص، منذ انتفاضتها الشاملة التي استمرت يوما واحداً عام 1976 ضد سرقة الأرض والجهود الإسرائيلية لتجريدها من أرضها وحقوقها القومية. لقد أُخضعت “الأقلية الفلسطينية” في إسرائيل للحكم العسكري طيلة 18 عاماً (1966-1948). كذلك امتدت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي اندلعت عام 2000م، إلى الفلسطينيين في إسرائيل، ليصبح واقعها والظلم الذي تعيشه محط واهتمام اللاعبين الدوليين والإقليميين.

وقبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية جرى التغاضي عن إهمال مكانة ودور هذه الأقلية في الصراع. وقد عملت إسرائيل بدون كلل من أجل فصل مسألة حقوق هذا الجزء من شعب فلسطين عن قضية الفلسطينيين في المناطق المحتلة وأولئك الذين يعيشون في الشتات.

اليوم لم يبق للأقلية الفلسطينية سوى 3 % من أراضيها. ويشكل النقص الحاد في الأراضي خطراً جدياً، اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، بالنسبة لمستقبل عشرات آلاف الشبان الفلسطينيين. فقد كتب بعض الباحثين الإسرائيليين مؤخراً أن تجاهل مشكلة “عرب إسرائيل” سيجعلهم قنبلة موقوتة وعامل عدم استقرار حتى بعد التوصل إلى حل يستثنيهم. فقد تحولت القرى والمدن الفلسطينية داخل إسرائيل إلى غيتوات بدون مصادر بديلة للمعيشة وللتطور الطبيعي.

ومع ذلك اتجه الفلسطينيون بأعداد كبيرة جداً إلى التعليم كبديل أو تعويض عن فقدان أراضيهم. ورغم أنهم يواجهون صعوبة جدية في دخول المعاهيد الأكاديمية أو في إيجاد عمل في المكاتب الحكومية والشركات، فإن الكثيرين منهم حققوا تقدماً في جهاز التعليم العربي وفي القطاع الإسرائيلي الخاص. ورغم ذلك، فإن البطالة مرتفعة، ونصف السكان الفلسطينيين في إسرائيل يعيشون تحت خط الفقر.

لقد أحدث ارتفاع مستوى التعليم لدى الفلسطينيين في إسرائيل ارتفاعاً في وعيهم السياسي والتنظيمي. وخلال العشرين سنة الأخيرة ارتفع وبشكل كبير مستوى التفكير والتعبير السياسي، وبدأت الأحزاب السياسية بطرح تحدٍ للأسس الأيديولوجية العنصرية التي بُنيت دولة إسرائيل عليها. وأدركت الأقلية الفلسطينية بشكل خاص، وضعها المميّز بصفتهم فلسطينيون عرب ومواطنون إسرائيليون، وبناء على ذلك سلكوا طريق النضال الجماهيري والمدني السلمي والأيديولوجي في مواجهة الفكرة الصهيونية-العنصرية.

وفي الفترة ما بين عام 2013 وعام 2014 أرغم الفلسطينيون في إسرائيل الحكومة الإسرائيلية على إلغاء مخطط ترحيل عشرات آلاف الفلسطينيين البدو في جنوب البلاد من قراهم إلى مدن صغيرة. وقد تحقق ذلك من خلال نضال شعبي جماهيري ارتقى إلى مواجهات عديدة مع قوات الشرطة الإسرائيلية. ورغم ذلك فإن هدم المنازل ما زال مستمراً وسياسة التهويد الإسرائيلية تتصاعد.

في السنوات الأخيرة، في أعقاب الانتفاضة الثانية، وحين أصبح الفلسطينيون في إسرائيل أكثر تأكيداً لهويتهم القومية وأكثر إصراراً على تحقيق المساواة والمواطنة الكاملتين، أعادت الحكومة الإسرائيلية تصويرهم وتشخيصهم معتبرة إياهم طابوراً خامساً وتهديداً أمنياً وخطراً ديمغرافياً. وبدلاً من أن تتبع سياسات ديمقراطية ومساواتية، واصلت إسرائيل وبشكل ثابت اعتماد وتطوير سياسات أكثر عدوانية، وتبنت قوانين عنصرية سافرة وسياسة هدم البيوت ومصادرة الأراضي. هذه السياسات فاقمت غضب الفلسطينيين في إسرائيل. وتصاعدت هذه النزعة في ظل الحكومة اليمينية الحالية التي تسعى إلى تعميق استعمارها الكامل في كل فلسطين.

وخلال العقد الأخير شددت حكومات إسرائيل على معارضتها أيديولوجيا المساواة الكاملة لمواطنيها الفلسطينيين والانسحاب الكامل من المناطق المحتلة عام 1967 وحقوق اللاجئين. وعملياً لدينا اليوم دولتان: دولة يهودية أخرى داخل حدود عام 1948، ودولة يهودية يديرها المستوطنون والجيش في المناطق المحتلة عام 1967.

تطوير التحدي الأيديولوجي

ما هو الدور الذي يستطيع الفلسطينيون في إسرائيل أن يلعبوه في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، أو بشكل أكثر دقة، في هزيمة نظام الأبارتهايد الاستيطاني هذا؟ من الواضح الآن أنهم جزء من الصراع ولذلك فإنهم أيضاً جزء من الحل. فسياسة إسرائيل التقليدية التي كانت تميز في التعامل بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر بدأت تتلاشى. هذه الحقيقة دفعت الكثيرين من المفكرين والناشطين وبعض القادة السياسيين إلى فحص جديد لمقاربتنا الخاصة بالعلاقات المستقبلية مع بقية الشعب الفلسطيني. فالروابط المشتركة تنمو وتتطور على الصُعُد الثقافية والاقتصادية والسياسية وبعض النضالات المشتركة. ويجب أن يُطور ذلك إلى مستويات عالية من التنظيم الواعي حول رؤية وأهداف واستراتيجية مشتركة، مع الأخذ في الحسبان خصوصيات كل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني.

وكان حزب التجمع الوطني الديمقراطي. الذي تأسس عام 1995. هو الذي ابتكر صيغة سياسية جديدة تتحدى الصفة اليهودية لدولة إسرائيل، وتنادي بدلا من ذلك بدولة لجميع مواطنيها. حزب التجمع الوطني الديمقراطي هو الحزب الأخير الذي ظهر حاملاً صيغة جديدة وجذابة، معتمداً على انجازات أحزاب سياسية أخرى كانت موجودة، وما زال بعضها داخل إسرائيل، وعلى تجارب الحركة الوطنية الفلسطينية والتجربة الإنسانية العالمية في مجال القيم العالمية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية. هذه الأحزاب هي: حركة الأرض، الحزب الشيوعي، حركة أبناء البلد، الحركة الإسلامية، الحركة التقدمية.

كان الدافع لتأسيس حزب يؤكد من جديد الهوية الوطنية للفلسطينيين في إسرائيل هو، في الأساس، التوقيع على اتفاقيات أوسلو. هذه الاتفاقيات اعتبرت الأقلية الفلسطينية عملياً شأناً إسرائيلياً داخلياً، وبالتالي هذه الأقلية تحت رحمة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي ومُكرّسة عزلها عن بقية الشعب الفلسطيني وتهميشها داخل إسرائيل نفسها.

إن التحريض ضد الفلسطينيين في إسرائيل وأحزابهم وقياداتهم بلغ أعلى درجات الخطر. وكان التجمع ورئيسه السابق، عزمي بشارة، قد بدأ يتعرض لحملة عدائية شديدة بعد ظهوره على الساحة بسنوات قليلة، بسبب التعبئة الوطنية التي اضطلع بها، وبسبب دعوة الحزب إلى إلغاء الطابع اليهودي-الصهيوني للدولة الذي يوفر الامتيازات لليهود كشرط أساسي للمساواة الكاملة والعدالة الاجتماعية والقومية. هي دعوة تهاجمها السلطات باعتبارها نفياً لحق اليهود بأن يكون لهم دولة. الزعيم السابق للحزب، د. عزمي بشارة، الشخصية التي تميزت بقدرتها الفكرية والخطابية والسجالية، أُرغم على الخروج إلى المنفى عام 2007، حين واجهته المخابرات الإسرائيلية بتهمة مُلفقة، التعاون مع حزب الله. ولكن الكثيرين مؤمنون بأن  الدافع وراء المؤامرة ضد بشارة، وما زال هو وحركته يواجه ملاحقة ومضايقات،  هو قرار سياسي إسرائيلي هدفه التحرر من التحدي الذي طرحه أمام ما يسمى الديمقراطية الإسرائيلية. الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلامية، أمضى سنتين في السجن بسبب دوره السياسي، وبسبب نقله أموالاً للأيتام الفلسطينيين في قطاع غزة، الذي تحكمه حركة حماس، وما زال يتعرض للملاحقات.

ما العمل؟

هناك حاجة ملحة للعمل، مفترضين زوال حل الدولتين الذي تتحمل إسرائيل مسؤوليته. عشرون عاماً مما يسمى مسيرة السلام أدت إلى نتائج كارثية: تكثيف الاستيطان، تعطيل م.ت.ف.، الجسم المركزي الذي شكل البيت المعنوي للفلسطينيين وقاد نضالاتهم وثورتهم حتى عام 1993، وتآكل روح المقاومة.

ولا مجال للخروج من هذا الطريق المسدود إلا باستعادة الوحدة الفلسطينية وإعادة بناء الخطاب الوطني الفلسطيني وصياغة الرؤية المشتركة.

جميع مبادرات المصالحة التي جرت تحت رعاية الدول العربية فشلت. آن الأوان لأن تكون جنوب أفريقيا (التي رفض زعماؤها صيغة أوسلو التي عرضت عليهم) مركزاً للحوار بين الفلسطينيين. لقد بات جلياً أن الانقسام بين الحركتين الفلسطينيتين الأساسيتين – حماس وفتح – أصبح راسخاً ومدعوماً بشبكة مصالح داخل كل حركة.

الطريق إلى الأمام تتمثل في المصالحة بين الأحزاب والأطراف الفلسطينية في قطاع غزة، في الضفة الغربية، إسرائيل، الأردن، لبنان وسوريا. وعملية المصالحة سوف تشجع المنظمات الشعبية ومنظمات المجتمع الأهلي أو الحراك من أسفل إلى أعلى- أو ما أصبح معروفاً لدى بعض الأوساط بالقوة الثالثة، التي تشكل الحامل الوطني للانتفاضة الثالثة التي طال انتظارها.

هذه المقاربة الجديدة تتطلب إقامة منظمات ولجان شعبية. المجتمع المدني والأحزاب الصغيرة والمنظمات النسائية، وبدرجة ليست أقل حركات الشبيبة التي يجب أن تكون لاعباً مركزياً في هذه المبادرة. هذه العوامل تستطيع المساهمة في الضغط على الحركتين الأساسيتين من أجل الانصياع للنداء الشعبي المطالب بالوحدة والانخراط في إعادة صياغة الخطاب الوطني الفلسطيني.

ما هي المسألة الفلسطينية

دعنا نتذكر أين بدأت المسألة الفلسطينية. إنها قصة كولونيالية كلاسيكية. في القرن التاسع عشر، حين كان الاستعمار سائداً ومسيطراً وجزءاً عضوياً من المركزية الأوروبية، جرى تأسيس منظمة أوروبية، أطلق عليها اسم الحركة الصهيونية، بهدف غزو فلسطين، ورغم معارضة يهود كثيرين لها، فإنها تقدمت إلى الأمام بمخططها الاستعماري في فلسطين بتأييد من الامبراطورية البريطانية.

وبخلاف نموذج الأبارتهايد في جنوب أفريقيا الذي استعان بالسود كأيدي عاملة رخيصة  فإن الحركة الصهيونية اعتبرت السكان الفلسطينيين الأصليين فائضاً عن حاجتها وعن متطلباتها. وفي عام 1948 طبقت الحركة الصهيونية ونفذت التطهير العرقي على نطاق واسع أثناء الحرب وبعدها. وقد جرى تحقيق ذلك من خلال ارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين أو طردهم بالقوة من فلسطين، وهكذا ظل الفلسطينيون في غالبيتهم لاجئين حتى اليوم. عدد اللاجئين المذهل يقدر اليوم بنحو 7-6 مليون، معظمهم يعيش في ظروف قاسية في مخيمات في الأردن وسوريا ولبنان وفي الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي تطبيقها للسياسة الصهيونية نجحت الحركة الصهيونية في الفصل ما بين الشعب الأصلي وبلده وأرضه، متنكرة لحقهم في العودة ولقرار الأمم المتحدة رقم 194.

وبقي داخل إسرائيل ضمن حدود 1948 حوالي 150 ألف فلسطيني. وتكشف الأرشيفات الصهيونية أن القيادة في دولة إسرائيل الحديثة ترددت في مواصلة سياسة الطرد، وذلك خوفاً من ردود فعل الأمم المتحدة التي اعترفت بإسرائيل قبل ذلك بوقت قصير. إن بقاء ووجود أقلية صغيرة من الفلسطينيين داخل حدود إسرائيل، والتي تحولت إلى أقلية كبيرة عدديًا، يعود إلى حدّ كبير إلى هذه المخاوف، أي من ردود الفعل السلبية من جانب الأسرة الدولية.

إن الصهيونية هي أيديولوجيا عنصرية واستيطانية، كما هو واضح من السياسيات الإسرائيلية التي تؤثر في صياغتها  العرق والديموغرافيا في فلسطين التاريخية. ولذلك إن انتقاد الجرائم التي ترتكبها إسرائيل لحماية احتلالها ليس كافياً. فهذه الجرائم منبثقة عن أيديولوجيا عنصرية توفر الامتيازات لليهود وتخضع الفلسطينيين وتستعبدهم على أساس تشريعات عنصرية بالضبط مثل الاضطهاد الذي استخدمه نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا لدعم نظام الأبارتهايد.

الأمر المتوقع من أصدقائنا في جنوب أفريقيا هو ألا تكتفي بإدانة الأعمال الوحشية التي ترتكبها إسرائيل في المناطق المحتلة، بل نتوخى منها أن تدين أيضاً أيديولوجية الأبارتهايد الصهيوني، فهي المصدر الأساسي للاحتلال والفصل العنصري والتمييز المنهجي ضد الفلسطينيين والأساس الذي تستمد منه سياسة سرقة أراضي الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل. في جنوب أفريقيا لم يكن كافياً الكفاح ضد جرائم الأبارتهايد وممارسته القمعية. كانت هناك حاجة للنضال ضد نظام الأبارتهايد نفسه والمطالبة بإلغائه من أجل ديمقراطية شاملة. وعلى نحو مشابه، نحن الفلسطينيين، نطالب بنزع الطابع الكولونيالي عن إسرائيل وتفكيك النظام العنصري البنيوي من أجل بديل ديمقراطي وإنساني شامل.

هذه هي توقعاتنا من أصدقائنا في جنوب أفريقيا: أن يطرحوا قضية نظام الأبارتهايد الصهيوني في جميع المحافل الدولية.

كما ونحث حكومة جنوب أفريقيا بأخذ زمام المبادرة، والمطالبة بفرض عقوبات اقتصادية وثقافية شاملة ضد إسرائيل.

شكرا لكم