بعد أربعة عقود من تبنّي الفلسطينيين، رسمياً، حل الدولتين، بات المشروع يلفظ أنفاسه الأخيرة، في المجتمع الفلسطيني والإسرائيلي، حيث تؤشر كل المعطيات إلى عدم تحقيق هذا المشروع على الأرض. فمنذ بداية انتفاضة الأقصى عام 2000، كفت قيادة الاحتلال عن تأييد الفكرة بالقيام بعدد من الإجراءات الملموسة عمليا وقانونيا التي تتنافى مع “حل الدولتين”، بل تتنافى مع الفكرة القائلة بأن الأراضي التي شملها الانتداب تضم جماعتين قوميتين، إذ تمت مصادرة كثير من أراضي الضفة الغربية، وتوسيع المستوطنات، وتوسيع شبكات الطرق لربط الكتل الاستيطانية بعضها مع بعض، إلى جانب الأراضي التي صودرت من أجل جدار الفصل العنصري، وعبر إقرار قانون يهودية الدولة في 2018، وإقرار الولايات المتحدة الأميركية بأن القدس عاصمة أبدية لـ “إسرائيل” 2019، وأخيرا قرار ضم أراضي غور الأردن 2020.
هكذا بات حل الدولتين مجرد ذكرى تاريخية لدى الأجيال الجديدة التي أعقبت الثورات العربية وعاشت إخفاقات السلطتين الفلسطينية إلى جانب التضييق الاقتصادي التي تفرضه سلطة الاحتلال من جهة والسلطة الفلسطينية بشقيها فتح وحماس.
طروحات “الدولة الواحدة” من اليمين إلى اليسار
كان ثمة مبدأ يقوم على فكرة “الدولة لكل مواطنيها”، وهو طرح الفلسطينيين منذ عشرينيات القرن الماضي ويعتبر امتداداً للنظام العثماني، خاصة في بداية القرن العشرين الذي ضم المسلمين واليهود والمسيحيين والأرمن والدروز والأوروبيين والشركس”، إذ ورد في شهادات القيادات الفلسطينية هذا الطرح أمام لجنة كينغ-كرين في عام 1919، وقرارات المؤتمرات العربية الفلسطينية السبعة في الأعوام ما بين 1919 و1928، والالتماسات التي قدمت للانتداب البريطاني وعصبة الأمم في الثلاثينيات، والمواقف التي عُرضت في محادثات مائدة سانت جيمس المستديرة في عام 1939، وفي اللجنة الأنجلو-أميركية في عام 1946 وفي لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين في عام 1947.
كذلك تبنّت منظمة التحرير الفلسطينية (التي تأسّست في عام 1965) صيغاً مختلفة للدولة الواحدة في أواخر الستينيات وخلال السبعينيات وحتى الثمانينيات، فكان الهدف الأصلي لمنظمة التحرير الفلسطينية في إقامة دولة فلسطينية لجميع مواطنيها، وقد نص على ذلك الميثاق الوطني الفلسطيني المعدّل لعام 1968. وسعت المجالس الوطنية الفلسطينية حتى عام 1974 إلى دولة واحدة علمانية وديمقراطية في كامل فلسطين، مدعومة من 99% من الفلسطينيين.
بدأت القيادة الفلسطينية التخلي عن هذا الطرح المتقدم في عام 1974 بعد إقرار البرنامج المرحلي برنامج النقاط العشر.
بعد فشل حل الدولتين على أرض الواقع، فإن عدداً من المسؤولين في السلطة الفلسطينية ألمح في السنتين الماضيتين على فترات متباعدة إلى الحقوق المتساوية داخل دولة تمتدّ من النهر إلى البحر، إلا أن هذا المنظور لا ينطلق من إعادة توجّه استراتيجي لدى القيادة، بقدر ما ينطلق من التخوّف من تحرّك أميركي-إسرائيلي لإنهاء الإجماع الدولي حول معادلة الدولتين. بينما كانت حركة حماس تدعو في فكرتها الأولى إلى دولة واحدة من النهر إلى البحر، دون أن توضح ماهية هذه الدولة ونظامها وبرنامجها، وقد باتت اليوم تتبنى صيغة الدولتين في أعقاب الإعلان عن بيانها السياسي الجديد في عام 2017، الذي سعت من خلاله إلى ترويج نفسها بصورة معتدلة لنيل اعتراف المجتمع الدولي.
كذلك عجز اليسار الفلسطيني وكذلك نظيره الإسرائيلي عن إقرار مفهوم الدولة الواحدة وعن تقديم رؤية واضحة وتفصيلية حول ماهية هذه الدولة، التي تتبناها القوى التقدمية في فلسطين، فعلى الرغم من أن بعض شرائح اليسار الإسرائيلي تؤيّد فكرة الدولة الواحدة، إلا أنها تُعاني من الإقصاء الاجتماعي ومن الشجب الأيديولوجي. وهي تنتسب أساساً إلى حركات غير صهيونية أو معادية للصهيونية، مثل حركة “المقاطعة من الداخل” وجمعية “زوخرت”، التي تؤمن بأنه لا يمكن تحقيق حل سلمي وعادل إلا من خلال عمليّتَي “نزع الصبغة الصهيونية” وإزالة الاستعمار”.
تعددت وجوه “الدولة الواحدة”
يثير طرح الدولة الواحدة اهتمام كثير من المجتمعين، ولكن كل طراف لديه أطروحات متعددة ومختلفة حول هذه الدولة. ليس هذا الأمر جديداً على المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي فهذا المقترح قديم وتكرر بأشكال مختلفة ومتنوعة وبصيغ متعددة. تعود أصوله الأولى إلى عشرينيات القرن الفائت حين طرحته منظمة “بريت شالوم” اليهودية، وحديثا تطرح بعض الأفكار بصيغ شبيهة داخل الكيان المحتل لتفضي إلى دولة واحدة في إطار صهيوني، مثل أفكار “اللادولة” الذي يعني استمرار الوضع القائم، ومنهم من ينادي بالضم وبمنح الفلسطينيين حقوق الجنسية.
بدأت القيادة الفلسطينية التخلي عن هذا الطرح المتقدم في عام 1974 بعد إقرار البرنامج المرحلي برنامج النقاط العشر
تبلورت في السنوات الأخيرة التيارات الداعية لفكرة “الدولة الواحدة” من مجموعات فلسطينية مختلفة، وإن تباينت في ماهية الدولة ونظامها السياسي، لكنها في الأغلب اشتركت في المبادئ الأساسية وهي: وحدة فلسطين، وحقوق الإنسان، وحق المواطنة لكل الذين يعيشون في المنطقة بين النهر والبحر، والحق المطلق غير القابل للتصرف بعودة كل الفلسطينيين الذين تعرضوا لعملية تطهير عرقي كمواطنين، أينما يكونون، واستعادة أملاكهم في وطنهم.
منذ بدايات الألفية الثانية ظهرت مجموعات ثقافية وسياسية ناقشت فكرة طرح الدولة الواحدة من الفلسطينيين واليهود المتخلصين من صهيونيتهم وعملوا كلهم من أجل تأكيد حق العودة، الذي يمكن أن يتحقق فقط في إطار دولة ديمقراطية واحدة. في كل تلك المجموعات هناك من يركّز، ليس على “اسم الدولة” بل على شكلها، أي يركز على أن تكون دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، أو دولة ثنائية القومية، لكنها “دولة إسرائيل”، باعتبار أن الاسم ليس هو المشكلة بل إن المشكلة تكمن في تكوين الدولة الصهيونية القائم على التمييز العنصري، ولهذا يكون الهدف هو “النضال” من أجل إزالة هذا التمييز وتحويلها إلى دولة ديمقراطية.
الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية
يطرح بعض الناشطين فكرة الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة، بينهم مجموعة داعية إلى طرح أكثر تحديدا ووضوحا في رؤيتها كمجموعة “فلسطين دولة ديمقراطية علمانية واحدة”، رغم صعوبة طرح العلمانية لدى الأوساط الفلسطينية، نظراً لسطوة وحضور الخطاب الديني الإسلامي لدى الفلسطينيين، ويصرون في طرحهم على تحديد اسم الدولة ونظامها السياسي وماهيتها، إذ يرون أن كلّ حل لا يناقش المشكلة الرئيسية التي أدّت إلى تدمير شعب واحتلال بلده وتشريد جزء كبير من سكانه يعتبر ناقصاً، وكذلك مشكلة وضع الدولة الصهيونية ودورها الإقليمي في خدمة الإمبريالية، ويفضي حتماً إلى وضع الفلسطينيين في وضع أدنى في تكوين الدولة والمجتمع، حيث تسيطر النخبة الصهيونية، ويتحكم الرأسمال الصهيوني. ويشيرون إلى أن الصراع في جوهره هو صراع عربي صهيوني نتيجة كون الدولة الصهيونية مرتكز السيطرة الإمبريالية، وبالتالي ليست فلسطين معزولة عن محيطها، ولا يتعلق الأمر بوضع مشابه لجنوب أفريقيا، التي أدى الحلّ فيها إلى استمرار هيمنة الرأسمال “الأبيض” على الاقتصاد، وبقاء التمييز قائماً.
إن حل الدولة العلمانية الواحدة كان الأسبق قبل النكبة وبعد هزيمة عام 1976، وأصبح جزءاً من برنامج اليسار الفلسطيني، ثم حركة فتح في منتصف السبعينيات إلى عام 1988، ثم تم تغييبه عن كل الأدبيات السياسية الفلسطينية، وأصبح طرحه أو حتى ذكره يستثير البعض ويدفعهم إلى التشويش على هذا الطرح ورميه باتهامات غير منطقية، إذ يتصادم هذا الطرح حول علمانية الدولة مع مجمل الخطاب الفلسطيني السائد من اليمين ومن اليسار، فهذا الطرح يكرس لفكرة ضم الضفة الغربية وقطاع غزة للدولة الصهيونية كما هدد بعض القادة الفلسطينيين دولة الاحتلال في مناسبات عديدة لتقبل حل الدولتين.
ويحدد سلامة كيلة في كتابه عن فلسطين: دولة ديمقراطية علمانية واحدة، الأدبيات الخاصة بهذا التيار عبر تحليل طبيعة الصراع وتفكيكه، فيؤكد أنه صراع متعدد ومركب، منه الصراع الوطني الفلسطيني الذي يشمل كل الفلسطينيين في الأرض المحتلة وفي الشتات مع المستعمر الصهيوني الإسرائيلي الاستيطاني، وهو صراع قائم ومباشر. ومنه صراع طبقي يشمل الفلسطينيين واليهود”، وهو صراع يتعلق بنضال المفقرين ضمن التكوين الطبقي الذي هو نتاج البنية الاقتصادية التي تأسست على ضوء الاستيطان الصهيوني”.
يستند دعاة علمانية الدولة الواحدة إلى إنهاء الدولة الصهيونية أولاً كوجود سياسي وعسكري وكأيديولوجية عنصرية، وأيضاً كنظام أبارتهايد شرطاً أساسياً لقيامها، فالدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة يجب أن تقوم على أنقاض الدولة الصهيونية وليس ضمن بنيتها، ولا بسيطرة رأسمالييها اقتصادياً ونخبها سياسياً.
حل الدولة العلمانية الواحدة كان الأسبق قبل النكبة وبعد هزيمة عام 1976
ويعتمد دعاة الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة على تصعيد تناقضات متعددة، وإعادة القضية إلى أساسها الصحيح، من أجل إنهاء الدولة الصهيونية وإقامة دولة علمانية ديمقراطية. لا تعتمد على “الشرعية الدولية”، ولا على المفاوضات، وترفض كل المنظور الذي برّر حل الدولتين، الأمر الذي يستدعي المقاومة بكل أشكالها، وهي مشروعة للفلسطينيين واليهود غير المتصهينين، فالصراع الطبقي يمكن أن يتخذ في لحظة شكلاً مسلحاً، والصراع العربي ضد الدولة الصهيونية هو صراع عسكري “تقليدي”، أي عبر “الحرب النظامية” التي يمكن أن ترافقها أشكال أخرى. فليس من الممكن إنهاء الدولة الصهيونية دون ذلك.