“ما بين الثورة والدولة (الواحدة): سيرة غير ذاتية”/ ناجي الخطيب

عندما دخلتُ في سن المراهقة باكراً، كنت مليئًا بالأمل وبالأحلام وبالشِعر ولكن، ما لبثتُ أن أدركتُ بالفطرة بأن هذا العالم كان بلا عدالة وأن التمرد ضروري لكي يكون للحياة بعضاُ من المعنى… وبسرعة، حدَدتُ أهداف ثورتي: السلطة الأبوية، وقيم المجتمع التقليدي وإسرائيل التي شردتنا وحولتنا الى جموع لاجئة. عائلياً، كنتُ أمضي وقتي ما بين حكايات العنف المنزلي ما بين العم العنيف والخالة الخاضعة وروايات الحب ما بين أمي في شبابها المشرق مع أبٍ مسنٍ يقضي جُلَ وقته ما بين العمل والقراءة. المنفى الخليجي المريح كان بالواقع غاية في الكآبة رمادي اللون في “مدينة الملح” و”الطوز” الصحراوي اللعين.

مكيفات الهواء التي لا يتوقف هديرها ليل نهار كانت تتناقضُ وقصص وذكريات ماضٍ سعيد في منشية يافا المُتَخَيلة و”هدير بحرها” الذي لم أسمعه وإن حلِمتُ بسماعي له مراراً.

في هذا السن المُبَكِر بدأتُ أتلمسَ حقيقة أن الأقدار الشخصية والجماعية تتشابكُ حتماً ولا يمكن لها أن تنفصل، وأن فقدان الأرض والوطن لا بدَّ وان يكون مرتبطاً ببعض العيوب في هياكلنا وبُنانا الذاتية وكان هذا الادراك مقدمةً لتسييس تمردي ولتقنيته ولتصريفه ولتحويله من ثورة فردية الى ممارسة السياسة كعمل جماعي وتشاركي مسؤول وقابلٍ للخضوع الى إرادة عليا مُتقَاسَمة. وهكذا، أصبحتُ فدائياً في سن الخامسة عشرة في الأشهر الثلاث للإجازة المدرسية الصيفية ولكي أشهدَ وأشارك في آخر مرحلةٍ من مراحل اجتثاث الثورة الفلسطينية في أحراش عجلون بالأردن.

 ثورتي الفطرية هذه تحولت بتقدميّ بالسن الى بدايات إدراك مشوش بعض الشيء لضرورة ان لا تقتصر ثورتنا على مواجهًةً العدو الخارجي فحسب، بل أيضًا لضرورة التصدي للعدو الداخلي بمختلف تجلياته وشياطينه الكامنة في أعماق بُنانا الذهنية وممارساتنا الاجتماعية وذكورية ثقافتنا، بُنىً وممارساتٍ تُضيف المزيد من الصعوبات في مواجهة التحديات التي تهدد وجودنا.

ثورة المراهقة هذه كانت تحملُ حلما مزدوجاً باجتثاث اسرائيل من ارضنا وبإسقاط كل أنظمة الاستبداد العربي وكل رموز القمع السلطوية بما فيها الرموز الأبوية والتي سرعان ما اكتشفت ُ سيادتها للمشهد الفدائي أيضاً في خضم معارك الحرب الأهلية في لبنان والتي شاركتُ بها كمقاتل متفرغ. انتقادُ “الأبْوَة” ومساوماتهم مع النظام الرسمي العربي بيمينهم وبيسارهم ما كان له إلا ان يقود دربي وأنا في سن التاسعة عشرة نحو مجموعات اليسار الثوري الجديد ونحو شعارهم “من اجل تحرير فلسطين يجب اسقاط النظام” وكان النظام السوري هو أولها. ولكن، الرومانسية الثورية هذه لم تُعمِرَ طويلاً إذ انتهت بشكلٍ مأساوي على اعواد المشانق المنصوبة في “ساحة المرجة” الدمشقية في يومِ سبتٍ أسود جسده الفنان السوري “يوسف عبدلكي” في لوحته الشهيرة “دمشق…سبتُ الدم”. وعندما لم تعد دمشق الفيحاء ورمز العروبة مدينةٌ لنا، ظلت “بيروت” عاصمةً للحلم الفلسطيني ولكن بيروت هذه وإن وقَفَتْ على شاطئ البحر المتوسط لم تكن “يافا” والتي لم أغفر لأبي تركها، بيروت هذه هي من اضطررتُ بدوري لتركها بعد الاجتياح الإسرائيلي لها عام 1982 ولكي ابدأ بتوسيع حلقة التشرد الى آفاقٍ أكثرُ بُعدأً مما فعله أبي وذلك من الشمال الافريقي وصولاً الى أوروبا.  

وهكذا، فهمتُ متأخرًا كيف يمكن للمرء أن يغادر مسقط رأسه ومرتع أحلامه وكيفَ أن هذا الدمجِ بين والده “الحقيقي” والأب الأعلى المُتَخَيَل، رمز القانون والنظام والأمن (والدولة المفقودة) كان مُتسرعاً.

رويدأ رويداً، بدأتُ أدركُ جوهرَ هذه الحركة المزدوجة للاستبدال والتي أجريتها بِخفة ودون الكثير من الاكتراث، حيث استبدلتُ الأم بالمنظمة والأب بالزعيم المقاتل، الأب المثالي: رمز التحرير الوطني والحداثة وبناء الدولة المنشودة (دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية لِما قبلَ 1974) ولكي تصبح القضية الوطنية عائلتي الجديدة وموطني في الشتات.

وفي وقت لاحق، ولدهشتي، فهمتُ لماذا قضيت كل هذه السنوات من دراستي الجامعية العليا في تحضير اطروحتي للدكتوراة، في تتبعِ السيرة السياسية لثلاثة “أبوة” في التاريخ الفلسطيني، “ظاهر العمر الزيداني”، “المفتي الحاج أمين الحسيني” و”عرفات” وفي تحليل أسباب فشلهم في تحقيق هدف بناء الكيان السياسي الفلسطيني ودولته العتيدة.

عند الغوص في المخطوطات في “المكتبة الوطنية الفرنسية” وفي مكتبة “المعهد القومي للغات والحضارات الشرقية”، قمت أيضًا بإعادة النظر في قصتي الشخصية، بعلاقتي بأبي وفي رواية عائلتي ومدينتي المفقودة، وذلك من خلال تتبع هذه المحاولات الثلاث لتأسيس “دولةٍ” لا نزالُ نفتقدها حتى اليوم.

لقد كان هذا البحث “المتقمص” لثوب العلم و”الموضوعية” والتجرد يمثِلُ بحثاً دؤوباً عن هذا “الغائب” – رديف الفراغ القانوني والرمزي، غياباً وفراغاً سيستمر بلا شك طالما أن الهدف بقي بعيداً عن التحقق. محاولات بناء “دولة” ضمنَ الدولة العربية القائمة فشلت جميعها بل واسفرت عن تحويل “السلم الأهلي البارد” الى حروب أهلية طاحنة في كلٍ من الأردن ولبنان. الرومانسية الثورية على الشاكلة الجيفارية والتي جربتُها في شبابي لم تكن أسعد حظاً في سوريا و”هانوي” الثورة ظلت حلماً بعيد المنال من عمان الى دمشق الى بيروت. وهنا، كان السؤال قاسياً …وما العمل؟ هل يمكن أن ننتظر “ربيعاً عربياً” متجدداً بعد أن برزت معالم الخدعة الاوسلوية الكبرى ببيعنا “وهم الدولة” فيما هي تعملُ على اجتثاث وجودنا من جذوره؟ كيف يمكن ان نتغلب على سياسات التعاون الأمني “المقدس” لسلطة “دايتون” والتي حولّت من الفدائي الى حارس للمستوطنة الصهيونية؟  وكيف لنا ان نواجه مشايخ النفط وبلطجية وفلول وشبيحة النظام العربي الرسمي في تحالفه المُعلَن دون حياءٍ مع عدونا؟ وهل غياب الدولة هو قدرنا المحتوم؟ هل سأضطرُ الى إعادة قراءةVolney  و Pierre Loti وTovia Ashkenazi و “عبود الصباغ” و”ميخائيل نقولا الصباغ” و”احسان النمر” و”أسد منصور” والأمير “حيدر الشهابي” والسامري النابلسي “إبراهيم الدنفي” و”أحمد حسن جودة” و”الخواجا موسى-موشيه سيملانسكي”  وغيرهم الكثير لكشف المزيد من أسرار هذا الغياب المريع ؟ وهل يمكن ان اقارن الصراع الفتحاوي-الحمساوي الراهن بما شهدته فلسطين ما-قبل النكبة من صراع حسيني-نشاشيبي لفهم عناصر وجذور هذا الانقسام السياسي الفلسطيني المديد؟  أسئلة قد تطول وتتشعب ولكن تظلُ تلِفُ وتدور حول الجرح الفلسطيني ورضوض الروح الفلسطينية وآثار تروما الصدمة المتواصلة على شاكلة “النكبة المتواصلة” والتي لم تتوقف فصولها بعد.

في عام 1986، كان لقائي مع “أرنا خميس” يمثلُ نقطة تحول هامة بالنسبة لي فاليهودي الاسرائيلي لي لم يكن سوى ذلك الطيار المجرم والذي قصف بصاروخ مباشر موقع صديقي “حسن نزال” (من قلقيلية ومن سكان مخيم إربد) على مرتفعات “الدامور” جنوب بيروت لكي يحول جسده الى فتات وهباء منثور على بعد مئات الأمتار من موقعي وذلك قبل أربعة أعوامٍ فقط من تاريخ لقائي بأرنا. لقاءاً حاسماً سمح لي ولأول مرة بإدخال “الآخر”-العدو في عالميَّ الذهني وفي دائرة ما يمكن أن يُفَكرَ به إذ لم تكن حلقات التثقيف التقليدية في “إعرف عدوك” كافيةً لان يصبحَ هذا العدو مُفَكَراً به وموضوعاً للتفكير. “أرنا خميس” مزجت ما بين يهوديتها وما بين فلسطينيتها لتقدم نموذجاً لمواطن دولة ديمقراطية علمانية واحدة ما-بعد قومية حصرية، مواطناً مرتبطاً بجهاز الدولة والذي لا بدّ وأن يكون جهازاً حيادياً ولا دين أو أيديولوجية له وذلك لوقوفه فوق كل الانتماءات القومية والدينية واللغوية. ولقد كان هذا اللقاء وما تبعه من لقاءات أخرى بيهود مُعادون للصهيونية فرصةً ليّ لكي أوسع من دائرة فهمي لطبيعة هذه الدولة القادمة والتي كانت قبل ذلك دولة فلسطينية خالصة وكأن التجمع اليهودي الاستيطاني الذي نجحت الحركة الصهيونية بزراعته في أرضنا مجرد كيان هلامي غير جدير بالاهتمام بل ويمكن تجاهل وجوده. لأول مرة، بدأت تتوضح لي طبيعة هذه الحركة الكولونيالية وايديولوجيتها الصهيونية في سعيها لإختلاق دولة وشعب على مقاسات قوميتها المُصطَنَعة وكيف استطاعت أن تسطو على اليهودية كديانة كمقدمة ضرورية للسطو على فلسطين وتحويلها الى دولة يهودية لِ”أمة يهودية”.

ما بين 1986 و2017 تطورت المجموعات المختلفة ممن تحمل شعار “الدولة الواحدة” بمنوعاتها المتباينة وكنتُ ولا أزال حاملاُ للتصور السياسي في الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة في فلسطين التاريخية وذلك كاقتراح سياسي لمستقبل العيش المشترك في فلسطين التاريخية وذلك ضمن تصور أخلاقي وإنساني، بعيداً عن التعصّب والشوفينية. هذا الاقتراح كان لا بدَّ وأن يكونَ فلسطينياً بالدرجة الأولى، وإن التفّت حوله أصواتٌ يهودية تقدمية ومتخلصة من خزعبلات الطرح الصهيوني العنصري وأساطيره. لقد بدا لي وكأنه شعارٌ كفيلٌ بحمل شحنةٍ دلاليةٍ قوية، وتحديداً للمُتلقي اليهودي الرازح تحت وطأة خطاب المؤسسة الصهيونية، فتفوّقه الأخلاقي، وإن لم يكسِبه على الفور بعضاً من الشرعية في نظر هؤلاء، يبقى موضوعاً للقلق، وذا حضورٍ لا يمكن الالتفاف من حوله، أو تغييبه بالكامل. هذا الاقتراح السياسي هو بمثابة دعوة مفتوحة لبناء مستقبل مشترك مُمكِن، ما يجعل منه تجسيداً لممارسةٍ سياسية جديدة، وهذا قد يُكسبه قوة الفعل بالواقع السياسي لتغييره، وذلك بالطبع ضمن ووفق حالات الصراع وموازين القوى القائمة ذاتياً وإقليمياً ودولياً. ولقد اعتقدتُ وبحزم بأنَ تجسيد هذا الشعار لرؤية سياسية تقدّمية وإنسانية رفيعة هو بمثابة شكلٍ من أشكال التدخل بموازين القوى المُختلة لصالح العدو الصهيوني وذلك للعمل على تعديلها من خلال ممارسة جميع أشكال النضال، ومنها هذا العمل الحثيث على بث هذه الرؤى لحلٍ ممكن لبناء “فلسطين جديدة”، ولضمان عودة اللاجئين، وتفكيك دولة الاستعمار الصهيوني الاستيطاني والإحلالي.

وأخيراً يبدو أنني قد وجدتُ ضالتي لكي أتخلص من بحثي المديد منذ أيام مراهقتي عن هذه الدولة الموعودة (الأب الأعلى) كخشبة خلاص لسنوات التشرد والمنافي والاحتلال والتطهير العرقي ولجميع عذابات الروح الفلسطينية في منافييها داخل وخارج فلسطين التاريخية. وذاتُ مرة وفي احدى لقاءات واحدةٍ من مجموعات “الدولة الديمقراطية الواحدة” في يناير 2017 في مدينة “إسطنبول”، عادَ لديّ حنين سنوات الشباب من جديد للبحث في الكيانية الفلسطينية وفي “الأرشيف العثماني”Osmanili Archive عثرتُ على رسالةٍ بعث بها “ظاهر العمر الزيداني” (المولود في “عرابة البطوف” أو في “صفد” عام 1689) الى القنصل الفرنسي في بيروت وكانت ممهورةً بتوقيعه. سعادتي كانت غامرة ولم أتندم على تغيبي عن نقاشات “الدولة الواحدة” ليومٍ كامل.

هذه السعادة أعادت لي تموضع مفهوم الدولة الواحدة والتي لا بدّ وأن تكون “دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة” وليس “دولة واحدة” في فلسطين. إنها الدولة-البرنامج للنضال الفلسطيني والتي انقلب عليها “برنامج النقاط العشرة” المشؤوم عام1974. إنها “دولة” ظاهر العمر الزيداني لكل فلسطين والتي بسطت نفوذها في “طبريا” أولاً لكي تتوسع الى “صفد” و”بيسان” و”الجليل” وجنوب لبنان الحالي وصولاً الى “بيروت”. تلك ال”دولة” التي تمددت جنوبا لتسيطر على “مرج ابن عامر” و”يافا” والساحل الفلسطيني حتى غزة. اندثرت هذه “الدولة” بمقتل زعيمها عام 1775 في “عكا” لكي تختفي أولى المحاولات في بناء دولة مستقلة في فلسطين منذ القرن الثامن عشر. ومذ ذلك الحين، لا تزالُ فلسطين، كل فلسطين تنتظرُ بناء دولتها الواحدة.