إن حل «دولتان لشعبين» لم يكن يوما حلا منطقيا من الناحية العملية، عدا عن كونه لا يتيح لشعبنا ممارسة حقه في تقرير المصير، وبالتالي فلا يمكن اعتباره اخلاقيا في جوهره. ففي افضل احواله يمكن لحل الدولتين تحقيق معظم الحقوق المشروعة لأقل من ثلث الشعب الفلسطيني على اقل من خمس أرض فلسطين التاريخية. وفي هذه الحالة فإن اكثر من ثلثي الفلسطينيين ـ اللاجئون وفلسطينيو الـ48، حملة الجنسية الإسرائيلية ـ سيجري اقصاؤهم بشكل تعسفي وقصير النظر الى خارج حدود تعريف «الشعب الفلسطيني». إذا، فمشكلة حل الدولتين هي بالاساس انه يتناقض مع حق العودة ويؤبد نظام التمييز العنصري داخل دولة إسرائيل، والذي يمكن وصفه بدقة بالأبارتهايد الصهيوني.
إن حل الدولة الديموقراطية العلمانية الواحدة، في المقابل، يتيح ممارسة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني بأجزائه. وهذا الحق، كما نصت مواثيق الامم المتحدة، هو حق ضروري لممارسة الشعوب لحقوقها الاخرى غير القابلة للتصرف. ولكنه ليس حلاً سحرياً ولا جاهزا: فهو، واي حل آخر في الواقع، لن يتحقق الا بعملية نضالية طويلة، تقوم على مقاومة شعبية واسعة ومثابرة ومبدعة ومبدئية وأخلاقية، تلهم من جديد شعوب العالم وقواه التقدمية، كما حدث في جنوب افريقيا، رغم الفروقات. وبذا تصبح هذه المقاومة، المدعومة دوليا، قادرة على قلب موازين القوى لصالحنا. بحيث نفرض على المجتمع الإسرائيلي قبول العدالة والقانون الدولي كشرط لإحقاق السلام. وعلى الرغم من العلاقة الجدلية بين أبعاد الصراع المختلفة، سأركز هنا على الابعاد الاخلاقية والقانونية والسياسية.
Iـ البعد الاخلاقي
في الجوهر، وبسبب الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين وما نتج عنه من فصول تهجير قسري متتابع ضد الشعب الفلسطيني، قسّم شعب فلسطين الى ثلاثة أجزاء رئيسية، لها حقوق غير قابلة للتصرف. حتى لو تغاضينا عن طبيعة إسرائيل كدولة تجمع بين الاحتلال العسكري والكولونيالية والابارتهايد، فالحد الادنى من تطبيق القانون الدولي ومبادئ العدالة النسبية يشترط الاعتراف بالحقوق الثلاثة الاساسية لشعب فلسطين، وهي:
– حق اللاجئين الفلسطينيين (ومن ضمنهم المهجرين داخل وطنهم) في العودة الى ديارهم والتعويض، حسب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 194 وجميع مواثيق الامم المتحدة ذات الصلة.
– حق الفلسطينيين في المنطقة المحتلة عام 67، بما فيها القدس، في الحرية والتخلص من الاستعمار الاجنبي.
– حق الفلسطينيين حملة الجنسية الإسرائيلية بالمساواة الكاملة، مما يتطلب انهاء نظام التمييز العنصري، الابارتهايد، ضدهم داخل مناطق 48.
أقول للعدالة النسبية، أي كتلك التي نالتها الغالبية في جنوب افريقيا بعد تقويض نظام الابارتهايد، لا العدالة المطلقة، التي تقتضي رحيل جميع المستعمرين ـ المستوطنين، كما حدث في الجزائر. اذ ان تطبيق الأخيرة في السياق الفلسطيني، المرتبط عضويا بتاريخ يهود اوروبا والابادة الجماعية التي تعرضوا لها هناك ورغبة الغرب في طي صفحة المحرقة من خلال إقامة دولة لليهود في فلسطين، يحمل في طياته ظلما جديداً، من الناحية الاخلاقية، وتأييداً للصراع، من الناحية السياسية.
لا يمكن إزالة اشكال الاضطهاد الثلاثة هذه، منطقيا، إلا من خلال مقاومة داخلية منظمة وفعالة وذكية، مدعومة من حركة تضامن عالمية كبيرة تمارس ضغوطا هائلة لعزل إسرائيل دوليا ومقاطعتها. كما جرى مع نظام الابارتهايد في جنوب افريقيا، لتحدث اختراقا في قلب موازين القوى السياسية فتؤسس لدولة ديموقراطية واحدة في فلسطين التاريخية، تنهي حالة الاستعمار الاستيطاني برمته. ان هذه الصيرورة تعني بالضرورة لا ـ صهينة فلسطين بشكل اخلاقي منسجم (ethical de- Zionization) عبر التوفيق بين الحقوق غير القابلة للتصرف لشعب فلسطين، بمكوناته الثلاثة، والحقوق المكتسبة لليهود القاطنين فيها، بعد تخلصهم، بل انعتاقهم، من امتيازاتهم وشخصيتهم الاستعمارية وقبولهم بإعادة الحقوق المسلوبة وبالمساواة الكاملة وبمبادئ العدالة، وفي صميمها حق العودة. وبما ان حق اللاجئين في العودة والتعويض، بالذات، منصوص عليه بما لا يقبل التأويل في القانون الدولي وقرارات الجمعية العامة للامم المتحدة، لذا يجب الا يكون مشروطا بأي قبول إسرائيلي، هذا القبول الذي تطالب به المبادرة العربية، وتتماهى معه، وأحيانا تؤيده علنا، قيادة السلطة الفلسطينية، وهو بالأساس رضوخ للإملاءات الاميركية بهذا الشأن.
IIـ البعد القانوني
إن المقدمة القانونية التي ينبي عليها منظرو «دولتان لشعبين»، وحتى بعض منظري الدولة الثنائية القومية، حجة التناظر او التوازن في الحقوق في فلسطين الانتدابية بين مجتمع المستعمرين ـ المستوطنين من جهة والسكان الاصليين من جهة اخرى يتلخص في حق تقرير المصير لكلا الشعبين على نفس الأرض، حسب ادّعائهم، ولكن ماذا يعني هذا الحق تحديداً وكيف ينطبق على المجموعتين المتصارعتين في فلسطين؟
تتلخص اطروحتي هنا بالتالي: ان مبادئ تقرير المصير في مواثيق الامم المتحدة، تؤكد ان هذا الحق، الذي يعني في حده الاقصى حق الانفصال في دولة قومية، لا يمكن ان ينطبق على أي مجموعة من المستعمرين ـ المستوطنين في الأرض المستعمرة، حتى لو برزت وتنامت لديهم سمات مشتركة كشعب. لماذا؟
أولا: ان حق تقرير المصير لأي مجموعة استعمارية ينفي بالضرورة حق تقرير المصير للسكان الاصليين. كما يشترط حق تقرير المصير عدم الاجحاف بالحقوق الاساسية للبشر المنصوص عليها في ميثاق الامم المتحدة وأهمها على الاطلاق مبدأ المساواة، ان الهدف الاساسي للصهيونية كان ولا يزال انفصال اليهود ـ الإسرائيليين في دولة «يهودية محضة»، كما عبّر هرتزل وبن غوريون وغيرهما من قادة الحركة الصهيونية، مما يعني بالضرورة، لا بالصدفة، دولة اقصائية عنصرية، كما هي إسرائيل الآن، تجحف بالحقوق الاساسية للفلسطينيين كشعب وكأفراد. وحتى لو افترضنا جدلا ان إسرائيل قادرة ان تكون غير عنصرية، أي غير مجحفة بحقوق جميع البشر تحت ولايتها القانونية، فإنها ستبقى بوجودها كدولة على أرض مستعمرة تنفي حق السكان الاصليين في تقرير مصيرهم على تلك الأرض ذاتها. فإسرائيل ليست دولة قائمة بحد ذاتها ـ كما كانت فرنسا اثناء استعمارها للجزائر، مثلا ـ تحتل أراضي دولة اخرى، بل هي كيان تكون من مجموعات استعمارية دمرت مجتمعا ونظاما قائما وشردت معظم الشعب الاصلاني لتقيم دولة بدلا منه، وعلى أرضه.
ثانيا: من اهم أسس القانون الدولي المبدأ التالي: Ex injuria non oritur iusـ الظلم لا ينتج حقا. فالغالبية الديموغرافية اليهودية في فلسطين قامت عن طريق ظلم تاريخي تمثل في التطهير العرقي لغالبية السكان الاصليين خلال النكبة، وبالتالي لا يمكنها ادعاء حقوق، كحق تقرير المصير، مبنية على كونها الأكثرية.
ثالثا: حتى لو تغاضينا عن التطهير العرقي، فلا يمكن ان يمنح المجتمع اليهودي ـ الإسرائيلي، ولو تمتع بصفات الشعب، حق الحفاظ على كيانيته، تحديدا لأنها قائمة على نظام ابارتهايد، يميّز عنصريا ضد «غير اليهود» في أهم مناحي الحياة، وأهمها ملكية الأرض. كما يعرّف هذا الكيان نفسه بدولة «الشعب اليهودي»، وبالتالي ينفي بتعريفه هذا، كما بقوانينه وممارساته على الأرض، بعض الحقوق الاساسية لجميع مواطنيه من السكان الأصليين لفلسطين، وبذلك يتناقض بشكل صارخ مع مواثيق الحقوق المدنية والسياسية للامم المتحدة.
رابعا: في ميثاق منظمة الامم والشعوب غير الممثلة (Organization Unrepresented National and Peoples) الصادر عام 1993، ورد المبدأ التالي: «تفقد أي دولة الحماية المكفولة لها من قبل مبدأ الوحدة الجغرافية اذا حرمت الشعوب الخاضعة لولايتها من حقوقهم وحرياتهم الاساسية»، كما أدان هذا الميثاق «نقل السكان كحرمان او تقويض لحق تقرير المصير»، والمبدآن ينطبقان على إسرائيل وجرائمها ضد الفلسطينيين منذ 1948.
خامسا: حتى الآن، وبعد 61 عاما من وجود إسرائيل، فلا يزال الشرط الذاتي في تعريف الشعب الإسرائيلي غائبا، رغم ان هذا الشرط يعد ضروريا. إن اليهود الإسرائيليين لا يعرفون أنفسهم كشعب، بل يعترفون فقط بـ«الشعب اليهودي» او «الأمة اليهودية»، أي تلك المتواجدة في كل انحاء العالم. ووزارة الداخلية الإسرائيلية والمحكمة العليا ترفضان بالمطلق الاعتراف بقومية إسرائيلية في سجل السكان وفي بطاقة الهوية، رغم اعتراف الدولة بما يزيد على 130 قومية اخرى.
من كل ما سبق، استنتج ان حق تقرير المصير لا يمكن ان ينطبق قانونيا او اخلاقيا على المجتمع اليهودي ـ الإسرائيلي في فلسطين. على هذا الاساس، فالدولة الواحدة التي اطرحها لا يمكن ان تكون ثنائية القومية، لان ذلك يفترض ويشترك حقوقا قومية متساوية لليهود ـ الإسرائيليين في فلسطين. أما الدولة الديموقراطية، التي لا تعترف بحقوق قومية لمجتمع المستعمرين ـ الاستيطانيين، فيجب في كل حال ان تكفل لهؤلاء أي لليهود ـ الإسرائيليين، جميع حقوق المواطنة وحقوق الإنسان الاخرى المنصوص عليها في القانون الدولي ومواثيق الامم المتحدة، وجميع حقوقهم الجماعية (باستثناء القومية، بالطبع) المكتسبة: الثقافية، والدينية، والاجتماعية، واللغوية، على ألا تجحف أي من هذه الحقوق بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني.
IIIـ البعد السياسي
وحتى لو وضعنا البعدين الاخلاقي والقانوني جانبا، ألا يطرح شعار «دولتان لشعبين»، في ظل موازين القوى الحالية وشبه الاجماع الرسمي العالمي، حلا اكثر واقعية للصراع؟ من وجهة نظري، لا. فإن كان بالامكان تسويق حل الدولتين كحل «عملي وواقعي» قبل ثلاثين او حتى عشرين عاما، فمن الصعب بمكان تسويقه كذلك الآن.
ومن المهم تذكّر انه لم يحدث في التاريخ قط ان تنازل مجتمع استعماري استيطاني عن امتيازاته الكولونيالية بطيب خاطر او بالاقناع، بل بالاساس بالمقاومة وقلب موازين القوى ومن ثم التفاوض لايجاد افضل السبل للوصول الى الحل الأفضل للصراع. ومن دواعي السخرية ان إسرائيل، في قمة قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ترتعد خوفا كلما ولد طفل فلسطيني في حيفا او أم الفحم او راهط ونابلس او القدس، وهي تسعى بكل السبل القانونية وغير ـ القانونية لانتزاع صكوك الملكية، او الطابو، لأي قطعة أرض هجر اصحابها منذ 1948. وهي تصر في كل ما يسمى «بالمفاوضات» مع ما يسمى «بالقيادة الفلسطينية» على اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحقها في الوجود، ومؤخراً كدولة يهودية تحديدا. وهي تهتز وتصرخ «خطر وجودي» كلما اطلقت مقذوفة عليها من غيتو غزة المحاصر والمروّع والمجوع، او حتى كلما نجحت نقابة ما في الغرب في تبني قرار مؤيد لمقاطعتها او سحب الاستثمارات منها، كما حدث في بريطانيا وكندا وجنوب افريقيا وغيرها. إن هذه القلعة الرهيبة بجدرانها وسيوفها والهشة في مبرراتها الاخلاقية والوجودية تعي تماما ان أحدا لا يستطيع اعطاءها الشرعية سوى الشعب الذي هجرته وقهرته وسعت لتدميره خلال ستة عقود من النكبة المتواصلة، ولكنه ابى ان يندثر او يندحر او يستسلم بحق وجودها ككيان اقصائي وعنصري واستعماري على أرضه.
لماذا تعاني إسرائيل، إذا، من هذا الضعف المرضي في الثقة بالنفس وتشعر بالتهديد المحدق بوجودها وهي في قمة قوتها؟ ربما لانها تدرك ان امبراطوريات اكبر واعتى منها شأناً قد اندثرت، وبسرعة نسبية، في القرن الماضي، او ربما لان بقاء القضية الفلسطينية في صميم الوجدان والهوية العربيتين، وتمتع هذه المنطقة بالثروات الطبيعية الهائلة يشكلان عاملين رئيسيين يقيان الفلسطينيين من خطر التدمير او التهجير الكامل، او لان فلسطين التاريخية هي حاليا دولة واحدة بالفعل، فقط دولة ابارتهايد واستعمار واضطهاد، مما يجعل الهدف، اذا، لا توحيد ما هو مقسوم، بل تحويل الموحد فعلا من كيان استعماري تسيطر عليه ايديولوجية عنصرية إقصائية، الى كيان ديموقراطي يكفل حق تقرير المصير والعدالة وحق العودة لشعبنا والحقوق المتساوية للجميع. وأخيرا، تعي بعض النخب القانونية في إسرائيل ان الاساس القانوني لتقسيم فلسطين، أي قرار 181 لعام 1947، هو ليس فقط جائراً ومجحفاً، ومن وجهة نظر بعض الحقوقيين غير قانوني اصلا، بل انه باطل ولاغ بسبب ما قامت به إسرائيل من انتهاكات خطيرة لأسسه وللضمانات المنصوصة فيه تجاه السكان العرب، وبالذات قيامها بالتهجير القسري لمعظم الفلسطينيين من وطنهم وتدمير المئات من قراهم وأحيائهم، مما يسقط أي شرعية لادعاءاتها المستمدة من 181.
ما العمل؟
لقد نجحت عملية اوسلو في تحويل قطاعات هامة من الشعب الفلسطيني من مشاركة في مقاومة الاحتلال والتهجير والتفرقة العنصرية الى طرف محايد، إن لم اقل اكثر من ذلك، يحاول دون كلل ان يتعايش مع واقع الاستعمار الاستيطاني. وحسب الارقام الرسمية الإسرائيلية، فقد بلغ التبادل التجاري بين إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 67، باستثناء القدس، 15 مليار شيكل خلال عام 2008، أي ما يقارب 4 مليارات دولار، معظمها في اتجاه واحد، بالطبع، مما يجعل السوق الفلسطيني ثاني اكبر سوق للمنتجات الإسرائيلية غير العسكرية في العالم، ان هذا يعني ان هناك شرائح اقتصادية هامة، وان كانت لا تزال تشكل اقلية عددية بين اصحاب رؤوس الاموال الفلسطينيين، مرتبطة بعلاقات وثيقة مع المؤسسة الاقتصادية الإسرائيلية في ظل الاحتلال، وبالتالي لا توجد لها مصلحة حقيقية في التحرر منه. أما على الصعيد السياسي، فقد تبنى جزء رئيسي في القيادة الفلسطينية المتنفذة خرافات اليسار الصهيوني حول أسس الصراع وسبل حله، حتى اصبحت مقولات هذا «اليسار» كليشيهات يرددها بعض ممثلي هذه القيادة وكأنها شعارات وطنية ثورية. منها، على سبيل المثال «الحوار هو السبيل الوحيد لجسر الفجوة النفسية، والتي هي اساس الصراع»، «ضرورة إقناع الجانب الإسرائيلي بأننا بشر وإننا قادرون ان نكون متحضرين»، «المتطرفون في كلا الجانبين هم العائق امام مسيرة السلام»، والاهم من كل هذه الاقوال قبول الفصل التعسفي بين العدالة والسلام.
إن الشعب الفلسطيني اليوم هو بأمس الحاجة لقيادة وطنية جامعة، تحظى بشرعية الغالبية الساحقة للفلسطينيين في كافة اماكن تواجدهم، بما في ذلك مناطق 48. وهذا يتطلب اعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تجسّد بشكل ديموقراطي وتمثيلي المطالب والطاقات الابداعية والاطر الوطنية للاجزاء الرئيسية الثلاثة للشعب الفلسطيني، وحسب برنامج نضالي مقاوم وبرنامج سياسي يسعى في حده الادنى لإزالة اشكال الاضطهاد الثلاثة السابق ذكرها. يجب ان تشمل هذه العملية آليات لنقل دفة القيادة والتمثيل تدريجيا وبحكمة من «السلطة الفلسطينية» العقيمة والفاقدة للبوصلة والآخذة بالتلاشي، الى م.ت.ف. مجددة تتسع لمجمل ألوان طيف الحركة السياسية الفلسطينية، بما في ذلك حركة حماس، بالتأكيد، على ارضية برنامج وطني مقاوم، يسعى أولا الى تغيير موازين القوى من اجل نيل حقوقنا.
اشكال المقاومة
بغض النظر عن وجود القيادة الحكيمة والقوية والقادرة والمبدئية والعصرية، ما هي اشكال المقاومة الفعالة القادرة على مواجهة ميزان قوى محلي واقليمي ودولي انكسر من كثر ميله لصالح اعدائنا؟ وفي ظروفنا الفلسطينية الحالية، هل نعتبر المقاومة تخصصا تمارسه فئة من دون بقية الشعب ام هو واجب الجميع، كل حسب قدرته؟ هل تعريف المقاومة وتحديد آلياتها هما حكر على احد؟ إذا كان الجواب «بلا» إذا لا بد ان نعتبر المقاومة بالضرورة مسؤولية جمعية وفردية، ولذلك تحديداً فهي متعددة الاشكال حسب السياق وحسب من يمارسها.
تعتبر المقاومة المسلحة من اهم اشكال المقاومة المباشرة ضد الاحتلال العسكري في تجارب الثورات المختلفة. وهي مشروعة حسب الاعراف الدولية من ناحية المبدأ، ولكن لا بد ان تكون محكومة برؤية سياسية مسؤولة وحكيمة وحساسة للواقع، كما يجب بكل حال ان تخضع للقانون الدولي وللمبادئ الاخلاقية الإنسانية والتي ترفض بشكل قاطع ايذاء المدنيين الأبرياء بشكل متعمد. ومن يرفض هذا الشق الاخير بحجة ان الاحتلال لا ينصاع لاي مبادئ او قيم فهو يضعف موقفنا الاخلاقي الذي يجب ان نحافظ عليه، اولا من ناحية مبدئية، وثانيا لأنه يعتبر من الناحية البرغماتية اقوى أسلحتنا على الاطلاق حين يوظف بذكاء وكرامة. فمنذ متى كانت إسرائيل هي المقياس الاخلاقي لشعبنا ومقاومتنا؟
حسب قراءتي السياسية للواقع الفلسطيني ضمن الظروف الدولية الحالية، اعتقد بأن الشكل المسلح لمقاومتنا لم يعد ممكنا، بالمفهوم الاستراتيجي، ولا مجديا او حتى تراكميا، ضمن ظروف غياب العمق الاستراتيجي والانعزال عن محيطنا وصعود الامبراطورية الاميركية الجديدة. وان كان العدوان الإسرائيلي على غزة لم ينتصر، أي لم يحقق أهدافه، الا انه بالتأكيد لم يهزم او يردع كما جرى في حرب تموز 2006 على لبنان، فمقاومتنا في ظل الحصار وضعف القدرات لم تقو ألا على صد العدوان هنا وهناك وحرمانه من النصر السياسي الذي كان يتوقعه، ولكن بتكلفة بشرية هائلة ودمار واسع في البنية التحتية. يجب، إذا، الا نتمسك بأي شكل للمقاومة بشكل دوغمائي او عدمي، برأيي، من دون دراسة متأنية ونقدية لجدواه ومدى صلاحيته للوصول الى أهدافنا السياسية المنشودة، ودون اخذ الموضوع الاخلاقي بعين الاعتبار كذلك. لسنا في موقع المقاومة اللبنانية المتقدمة فكراً وعلماً ونضالا على الأرض عن أي مقاومة عربية حديثة… ولن نصير. ظروفنا مختلفة بشكل نوعي، ولذا لا بد من دراسة امكانياتنا وتحالفاتنا لاستغلال نقاط قوتنا والتخفيف من حدة نقاط ضعفنا.
لا يمكننا في ظل الانعزال الجغرافي عن محيطنا العربي الا ان ننتقي أساليب المقاومة التي تحقق لنا المردود الاقصى من الناحية السياسية، من دون تجاوز مبادئنا الاخلاقية. ان المقاومة المدنية بأشكالها، وعلى رأسها حملات مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، تستلهم تاريخنا الغني في الكفاح الشعبي ضد الصهيونية منذ اكثر من مئة عام، والذي غلب عليه الشكل النقابي والاجتماعي والثقافي والفني، كما تستلهم نضال شعب جنوب افريقيا ضد الابارتهايد. وهي الخيار الاكثر واقعية والاكثر تأثيرا ضمن الظروف الدولية والاقليمية الحالية وعلى المدى المنظور. فقد اثبتت بالملموس انها تعزز الامل في توحيد الفلسطينيين وحركات التضامن العالمية في استراتيجية مقاومة اخلاقية وذكية وفعالة ومستقطبة للدعم والتضامن العالميين، وهي تجبر إسرائيل على المواجهة في ساحة صراع هي الاضعف فيها بكل تأكيد، اذ انها تحيّد معظم عناصر قوتها وجبروتها التي طالما قهرتنا بها في ساحات المواجهة التقليدية.
ختام
إن حل الدولة الديموقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية، في سياق تغيرات ديموقراطية جذرية في المحيط العربي، هو ليس فقط الحل الاكثر اخلاقية، بل هو الوحيد القادر على إزالة الاضطهاد الثلاثي المركب ضد شعبنا بما يضمن، أيضا بشكل اخلاقي، تأسيس مجتمع ديموقراطي تقدمي، قائم على الحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والانعتاق من محاور الهيمنة الامبريالية، والاهم من كل ذلك، على المساواة في المواطنة وفي الإنسانية. وهي الضمانة لتمكيننا من ممارسة حقنا في تقرير مصيرنا.
عمر البرغوثي اكاديمي فلسطيني وعضو مؤسس في الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.