ما هي حملة الدولة الديمقراطية الواحدة؟

حملة الدولة الديمقراطية الواحدة هي مبادرة فلسطينية تدعو إلى إنهاء النظام الاستعماري الصهيوني وتسعى إلى إقامة دولة ديمقراطية واحدة في فلسطين التاريخية، قائمة على العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، حيث يعيش الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون في مساواة.

أطلقت حملة الدولة الديمقراطية الواحدة من قبل ناشطين ومفكرين وأكاديميين فلسطينيين ويهود إسرائيليين في أوائل عام 2018 في مدينة حيفا. وتسعى إلى التعاون والتنسيق مع الأفراد والمجموعات، داخل وخارج فلسطين التاريخية، الذين يسعون إلى تحقيق التحرر.

اقرأ المزيد

أسئلة وأجوبة

ببساطة، تعني أن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره يشمل كل فلسطين، وليس في خمسها فقط، وأن كل لاجئٍ طردته الحركة الصهيونية له الحق في العودة، بما فيه نسله. وهي رؤية تحررية، وحل سياسي إنساني، لمأساة الشعب الفلسطيني وإنهاء عذاباته. إذ تعرض الشعب الفلسطيني لغزوة استعمارية استيطانية، ولعملية تشريد وتهجير، وسرقة لوطنه من قبل حركة استعمارية أوروبية، هي الحركة الصهيونية، بدعم ومساندة الاستعمار البريطاني والغربي عموما، والتي غررت بملايين اليهود للهجرة إلى فلسطين التي تم تهويدها وتحويلها إلى دولة يهودية كولونيالية عنصرية، وأداة للقمع والنهب والتوسع ضد شعوب المنطقة، وذلك على مدار أكثر من قرن من الزمان.

فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة هي مشروع تحرري شامل، يستلهم مبدأ العدالة التاريخية، وخطاب الحقوق الكونية، كالحرية، والعدالة والمساواة، وترمي إلى إستعادة مشروع التحرر الوطني الديمقراطي، وحقوق الشعب الفلسطيني، بكافة تجمعاته، وفي مقدمتهم اللاجئون، وتطرح حلًّا لمسألة الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين، التي خلقها الاستعمار الأوروبي العنصري في الخارج ونقلها إلى فلسطين. وذلك في دولة ديمقراطية واحدة على كامل فلسطين التاريخية، دولة المواطنين التي لا تميز بينهم على أساس القومية أو الدين أو العرق أو الجندر. وسيعني تحرير اليهود من الصهيونية، حرمان حكومات الغرب الاستعماري، وخاصة الإمبراطورية الأمريكية، من استخدام اليهود ضد الشعب الفلسطيني وحريته ووجوده، ووقودًا في حروب الهيمنة والعدوان على الشعب الفلسطيني، وعلى المنطقة العربية، خدمة لمصالحها الاستعمارية.

على خلاف بعض الأصوات، تنطلق “حملة الدولة الديمقراطية الواحدة ” من مبدأ العدالة والإنصاف، أي أن شعب فلسطين له الحق في استعادة بلده، كل فلسطين، وفي التنقل بحرية بين أرجاء الوطن وفي بحره، دون قيد أو شرط، ودون حواجز وجدران، وأن ينعم بأمن وعيش كريم. لكن لا شك أن موت نموذج “حل الدولتين” الذي يقوم على التقسيم والفصل والظلم، على يد إسرائيل، يمنح زخمًا للحراك حول حل الدولة الواحدة، ويعزز منطقه ومسوّغاته وراهِنِيّتَه.

فلسطين، هي قُطر عربي في الأصل، من أقطار العالم العربي، الذي كان من المفروض، أسوة بالعديد من هذه الأقطار العربية التي جزأها الاستعمار في سياق مخططه العنصري والإحلالي، أن يحصل على استقلاله. ومن الطبيعي أن يقاوم شعبها، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، مخطط استعمار بلده، ومخطط تقسيمه وتهويده، ويواصل هذا الفعل الإنساني حتى اليوم دون توقف، بأشكال مختلفة ومتنوعة.

وعلى خلاف ما يعتقد البعض، بأن الفكرة من بنات أفكار جماعة “بريت شالوم” اليهودية -التي طرحت فكرة دولة ثنائية القومية، في أواخر العشرينات- فإن الجمعية الإسلامية المسيحية في القدس كانت أول من طرح هذا الحل (عام 1919م) في رسالة إلى الحكومة البريطانية التي كانت لتوها فرضت سيطرتها على فلسطين. وتضمنت الرسالة طلبًا باستقلال فلسطين، وتأسيس نظام حكم يقوم على المساواة بين كل من يعيش في البلاد.

لم يعرف التاريخ حالة واحدة تنازل فيها المستعمر طواعيَة عن استعماره. فالاستعمار “بِنية وليس حدثًا”، ولا يمكن تفكيكه وتغييره إلا بالنضال والمقاومة. نضال طويل الأمد.

هناك حالات كثيرة لا يستطيع السكان أو المواطنون المشاركة في خيارات قادتهم؛ سياساتهم او أفعالهم. فالصرب، في أثناء الحرب الأهلية في يوغسلافيا -في التسعينيات- الذين تبعوا قادتهم في حملة الإبادة ضد جيرانهم السابقين في البلقان مثال على ذلك. والبيض في الجنوب الأمريكي أو في نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا مثال آخر، وكذلك المذابح الجماعية في راوندا أوائل التسعينيات.

إن اليهود الإسرائيليين، وبتأثير الأيدلوجية الصهيونية الاستعلائية، عاجزون عن فهم النضال الفلسطيني، أو اختيار قادة قادرين على قيادتهم نحو العدالة والسلام. وفي الواقع، في معظم حالات الحرب والاضطهاد جُلُّ الناس تميل لتسليم أزِمّةِ السيطرة إلى قادة عدوانيين. إذن، ما الذي يمكن فعله؟

يمكن تعلم درس من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. عندما أطلق نضاله ضد نظام الأبارتهايد، كانت قيادته تدرك أن لا شيء يمكن أن يقنع مجتمع البيض بأن نظام الفصل العنصري الإجرامي، كان خطأ وأنه كان يجب أن يزول ويستبدل. وعِوَضا عن تبديد الوقت والجهد في محاولات الإقناع، طورت إستراتىجية مقاومة من الخارج، ونضالا شعبيا عارما في الداخل، وحركة نضال مدني، تتمثل في حركة المقاطعة في الخارج، تتجاوز المجتمع الاستيطاني الأبيض المُهيمن، وحكومة الأبارتهايد، بل حكومات الدول الخارجية التي كانت تدعم النظام العنصري.

لقد توجه المؤتمر الوطني الإفريقي إلى شعوب العالم مباشرة، من خلال منظمات المجتمع المدني، بهدف دفع نظام الأبارتهايد إلى السقوط بغض النظر عن رغبة المجتمع المستوطن. وقد كتِب لهذه الإستراتيجية النجاح.

هذا لا يقلل من أهمية دور بضعة آلاف من البيض الذين انخرطوا مباشرة بالفعل المقاوم الذي خاضه السود، وكذلك الشخصيات اليسارية التي انضمت إلى قيادة المؤتمر، ومن أبرزهم المناضل، روني كاسرل، الذي شغل مهمة الاستعلامات في حزب المؤتمر إبّانَ المقاومة، وبعد الانتصار وسقوط نظام الأبارتهايد، كلفه حزب المؤتمر بحقيبة الأمن الداخل.

وما هو شكل الدولة المطروحة؛ هل هي ديمقراطية لبرالية، التي تقوم على المساواة الفردية فقط، ولا تعترف بحق التنظم على أساس قومي، أو حتى بالحقوق الجماعية، أم ثنائية القومية، التي تعترف بوجود قوميتين في فلسطين تعبر كل واحدة منهما عن حقها في تقرير المصير ضمن الدولة الديمقراطية الواحدة، أم الديمقراطية اللبرالية بنسختها الحديثة، التي أدخلت الحقوق الثقافية، أم أشكال أخرى من الكيانات السياسية؟

تتبنى الحملة المفهوم العام للدولة الديمقراطية المدنية، أي دولة ديمقراطية دستورية تستمد شرعيتها من إرادة الشعب والمواطنين المتساوين، وتتضمن الحقوق الثقافية الجماعية، وتترك تفاصيل وشكل الدولة النهائي للزمن ولديناميات التطور، المادي والفكري القادم، ولاجتهادات الجيل الجديد وإبداعاته. من المفروض أن يجيب الواقع المتحول دوما عن أسئلة لا تتوفر لها حاليا أجوبة قاطعة، سواء في المسائل الفكرية، السياسية، الدستورية، أو العملية.

ولكن يمكن إيجاز المبادئ الموجهة لشكل الكيان السياسي الذي نطمح إليه، بالآتي:

  • هزيمة وتفكيك نظام الأبرتهايد الكولونيالي واستبداله بنظام ديمقراطي دستوري يضمن المواطنة المتساوية.
  • تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين -الذين طردوا بالقوة من وطنهم- ولنسلهم، واستعادة أملاكهم وتعويضهم عن المعاناة والعذابات والحرمان الذي ذاقوه طيلة عقود من التهجير والعدوان.
  • ضمانات دستورية تضمن –كونها جزءًا من الحقوق الفردية- الحق في ممارسة الحقوق الثقافية الجماعية، كاللغة والدين والعادات والأعياد.
  • تبني نظام العدالة الاجتماعية والاقتصادية الذي يضمن توزيع الثروة بشكل عادل، بصفته بديلا عن النظام النيولبرالي المتوحش.
  • يتخلى اليهود الإسرائيليون، (أبناء وأحفاد المستعمرين) عن امتيازاتهم التي انتزعوها بالقوة من السكان الأصليبن، ويعيشون بصفتهم مواطنين متساوين، في هذه الدولة. وهذا النموذج مستوحى من نموذج الحل في جنوب إفريقيا، التي سقط فيها نظام الأبرتهايد السياسي، تحت ضربات المقاومة المحلية، والمقاطعة الدولية، وإن لم يسقط نظام الأبارتهايد الاقتصادي، حتى الآن. وهو ما تدركه حملة الدولة الواحدة، وتعمل على تفاديه.

لم ينشأ هذا السؤال الاعتراضي إلا مؤخرا، لدى أصوات قليلة. إذ لم يطرحه أحد أو أي فصيل فلسطيني، بل لم يكن عائقا أمام التطور في التفكير السياسي الفلسطيني، عندما تبنت منظمة التحرير الفلسطينية حل الدولة الديمقراطية العلمانية، ومن خلال المجلس الوطني الفلسطيني، عام 1969م.

إن أنصار الدولة الواحدة يهجسون أولا بمصير شعبهم، كما هجس الأوّلون من قادة هذا الشعب، وقبل أن يتغيروا، أو يغيروا وجهة بوصلتهم، ويتخلوا عن الإرث التحرري، المناهض للكولونيالية.

يقدم حل الدولة الديمقراطية الواحدة حلا لقضية شعبنا، ويقترح طريقا لإنهاء العذابات والجريمة الصهيونية المستمرة، عذابات اللجوء، والسجون، والحصار، والتمييز والنهب. هو طريق لتخليص شعبنا من عنف المستعمر، وظلمه، وتحطيم الجدران، وتحقيق حياة حرة كريمة في وطنه، فلسطين، من خلال رؤيا واضحة، تبدد الظلام والغموض الناجِمَيْن عن غياب الرؤيا والمشروع. هو طريق لعودة اللاجئين إلى ديارهم، وتصفية جذور الظلم.

ليس هذا فحسب، بل إن الإضافة التي يقدمها هذا الحل التحرري، الوطني الديمقراطي، هو أنه يقترح تصورا لشكل النظام السياسي المستقبلي الذي سيعيش في ظله هذه الشعب، النظام الذي يضمن عدم استمرار الإرث الاستعماري الكولونيالي، الذي لا تزال تجلياته الكارثية في دول الوطن العربي، كالتبعية، والاستبداد، والقهر، والتأخر التنموي، وانعدام الديمقراطية والحريات والمساواة، باقيةً وحية، وبصورة بشعة ومتوحشة.

إن الدولة الديمقراطية المنشودة، تستمد مبادئها من القيم الإنسانية الكونية، التي تقوم على المساواة بين البشر، وبين مواطنيها، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الإثنية، أو القومية أو النوع الاجتماعي.

إن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي قاد النضال والمقاومة ضد نظام الأبارتهايد الكولونيالي وانتصر عليه عام 1994م، لم يطرح هذا السؤال عندما أصدر عام 1955م، ميثاق الحرية الشهير: Freedom Charter والذي حدد بشكل قاطع مطلبه في إسقاط نظام الأبرتهايد والمساواة الكاملة، مع المستوطنين البيض، تحت شعار: one person one vote.

نعم، كل حالة استعمارية لها ميزاتها، ولا توجد حالة واحدة طبق الأصل عن الأخرى، ولكنها –جميعا- تنتمي إلى الحظيرة نفسِها، حظيرة الكولونيالية والفصل العنصري.

ندرك جيدا أوجه الاختلاف، فهي مهمة، لكنها ليست جوهرية، ومع ذلك، علينا أن نعرفها من أجل أن نجتهد ونبتكر صيغة تلائم فلسطين.

لماذا استلهام نموذج جنوب أفريقيا؟ أولا: هو استلهام نموذج المقاومة، والنصر المتمثل بإسقاط نظام عنصري كولونيالي في هذا البلد الإفريقي. وثانيا: لأن الأبارتهايد بات مدانا بصفته جريمة ضد الإنسانية، في القانون الدولي، وبالتالي، فإنه يساعد الشعب الفلسطيني، وأنصار الحرية في العالم، في نضالهم لتعرية نظام الأبارتهايد الصهيوني، وعزله.

فكرة الدولة الواحدة في فلسطين، ليست جديدة إطلاقا، وهي ليست انحرافًا عن الإرث النضالي الفلسطيني التحرري، بل هي امتداد له، ومن صميم هذا الإرث.

ففي عام 1919م، كما ذكرنا أعلاه، بعث ائتلاف الجمعيات الإسلامية المسيحية الفلسطينية، رسالة إلى الحكومة البريطانية، أي بعد صدور وعد بلفور المشؤوم، تطالبها بدولة ديمقراطية واحدة مستقلة يعيش فيها الجميع بمساواة تامة.

وفي أواخر الستينيات وبعد إعادة تكوين الحركة الوطنية الفلسطينية، تبنت منظمة التحرير الفلسطينية، في ميثاقها الوطني، شعار الدولة الديمقراطية (العلمانية) الواحدة على أنقاض المشروع الاستعماري الصهيوني.

ما حصل لاحقا، وبعد سنوات قليلة، هو تعرضت قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية لضغوط دولية بقبول دولة في الضفة والقطاع كشرط للدعم.

ولكن النتيجة الفعلية التي نشهدها اليوم بعد التخلي عن هدف التحرير الشامل، هي أن فلسطين كلها باتت جغرافية واحدة يحكمها نظام فصل عنصري كولونيالي، جشع، لا يعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

ألا يكفي أن تتبنى الحركة الوطنية خطاب الحقوق؟ أي أن يطالب الفلسطينيون بتحقيق العدالة والحقوق المتساوية، ويناضلوا ضد الاحتلال والاستعمار؟ أليست الأولوية أن نعمل، في هذه المرحلة، مرحلة الانقسام والتشظي واضمحلال الحركة الوطنية الفلسطينية وقيمها التحررية، على إعادة توحيد الفلسطينيين، واستعادة فكرة فلسطين بصفتها وحدة جغرافية وديمغرافية واحدة، حول النضال ضد نظام الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني ثم لاحقا نتحدث عن حل؟

بالطبع، إن استعادة وحدة الشعب الفلسطيني، هي مهمة ملحة وعاجلة، وذات أولوية. ولكن السؤال: تحت أي شعار وأي برنامج، الذي يمكنه أن يسهل هذه المهمة الوحدوية، وأن يوفر الوضوح في الرؤيا، ويحشد هذا الشعب. نحن بحاجة إلى رؤيا وبرنامج سياسي، وإستراتيجية كفاحية، وهدف نهائي. لقد نشأ وعي الشعب الفلسطيني، منذ عقود على فكرة التحرير والعودة، والدولة الواحدة في كل فلسطين.

وبهذا المعنى، فإن استعادة حقوق الإنسان الفلسطيني في التحرر والمساواة، والحرية، والاستقرار والأمن الاقتصادي أمر جوهري وهو الهدف الأساس للدولة الواحدة، وبدونها لا قيمة لأي دولة. لا يجوز تصنيم الدولة، إذ إن الإنسان هو المركز، وهدف الدولة خدمته وصيانة كرامته.

إن حقوق الإنسان والقانون الدولي هي أدوات مفيدة في النضال من أجل الحقوق، مع أن خبراء القانون يعترفون بمحدودية القانون الدولي بشكل عام، وبشكل خاص في قضية فلسطين، إذ إن من يدير النظام الدولي غير عادل. كما أن القانون الدولي لا يضيف شيئا لبرنامج الدولة. بدون دولة أو كيان سياسي، كيف يمكن حماية هذه الحقوق وتطويرها وترسيخها؟ في دولة واحدة؟ في دولتين؟ أو في نوع من الكونفدرالية؟ ديمقراطية؟ أو نوع من تفاهم ثنائي القومية أو ديمقراطية طوائفية توافقية (لبنان نموذجا). ماذا سيكون دور الدين؟ كيف ستتم حماية حقوق الأقليات؟ ماذا عن العدالة الاقتصادية؟ هل سيكون الاقتصاد نيولبراليا، إشتراكيا؟ أو خليطا من الاِثنين؟ من يحق له الهجرة إلى البلاد؟ من يسيطر على الجيش وقوات الشرطة؟ ألم تواجه النخب العربية، بعد انفجار الثورات العربية مسألة نوع الدولة أو نظام هذه الدولة الذي تطمح إليه، وألم تنشغل النخبة الفلسطينية، في شكل النظام الفلسطيني، بعد أوسلو، وإن في ظل كيان فلسطيني موهوم على بقعة صغيرة من فلسطين، خاضع للسيطرة الكولونيالية الصهيونية. ألا يستدعي هذا الواقع الانشغال في شكل الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين، التي من المفترض أن توفر الحريات والعدالة الإجتماعية والمساواة للمواطن الفلسطيني، وكذلك المساواة مع من يريد من الإسرائيليين العيش مع الفلسطينيين، وما يترتب على ذلك من استحقاقات قانونية!

هذه أسئلة وقضايا مهمة أخرى تستدعي برنامجا سياسيا، وليس التأكيد – فقط- على أهمية الحقوق. لن يعطي أحدٌ الحقوق للفلسطينيين، ولا يعمل العالم بهذا الشكل. لا بد لهم أن يخوضوا نضالا حقيقيا لانتزاع حقوقهم، وأن يكونوا مبادرين لهذا النضال الذي يشترط وجود برنامج سياسي يعبر عن طموحاتهم وحاجاتهم، وصياغة إستراتيجية كفاحية فعالة، وبناء تحالفات واسعة. نحن أصحابَ الشأن علينا أن نفكر سياسيا.

لا يوجد حركة سياسية تحررية لا تحدد الهدف النهائي لنضالها.

تجدر الإشارة إلى أن النقاش الفلسطيني الحالي الذي يدور بين النخب أساسا – وإلى حدٍ ما في أوساط شعبية- لا يدور بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة، كما كان الحال قبل عشر سنوات أو أكثر، بل داخل النخب التي طورت نقدا جذريا لِبنْية القرار الفلسطيني والهياكل المتهالكة والعاجزة، التي تتحكم به.

هذان التوجهان يلتقيان في ضرورة التخلص من مدرسة أوسلو، التفريطية، التجزيئية، وإعادة الصراع إلى جذوره الأولى بجَعله صراعا كولونياليا، بدأ قبل أكثر من قرن، وتتوج في النكبة الكبرى عام 1948م، وفي ضرورة إعادة الاعتبار لقيم حركة التحرر بصورة عامة وحركة التحرر الفلسطيني بصورة خاصة.

إن أنصار حل الدولتين، التقسيمي الاستعماري، هم اليوم في حالة دفاع، ويمكن القول إنه دفاع خجول، بسبب حجم التنازلات الخطيرة التي قُدّمَت من أجل هذا الوهم، وبسبب الخراب الهائل الناجم عن مواصلة التمسك بذلك، الخراب المادي المتمثل في التمدد الاستيطاني السرطاني في الأرض التي كان من المفروض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية، وكذلك الخراب المعنوي المتعلق بالوعي.

وعودة إلى التوجه المتحفظ من تحديد الحل، فإننا في حملة الدولة الديمقراطية الواحدة، نشتبك معهم في النقاش – بالمفهوم الإيجابي- لا سيّما وأن أغلبهم يؤمنون أنه في نهاية المطاف لن يكون إلا حل الدولة الواحدة بهذا الشكل أو ذاك.

ولكننا، في حملة الدولة الديمقراطية الواحدة، نؤمن أن ثَمَّ حاجةً لبلورة تيار تحرري واسع، وطني ديمقراطي، على الساحة الفلسطينية، يشمل حلفاء يهودًا معادين للاستعمار ولنظام الأبرتهايد الإسرائيلي، ومؤمنين بحل الدولة الواحدة، ويضع خطاب الدولة الواحدة بمفهومها التحرري الشامل في مركز الخطاب الفلسطيني العام، لأن هذا الخطاب الوحدوي والتقدمي وحده يوفر رؤيا واضحة لكيفية التخلص من الاستعمار، وصياغة المستقبل، ووحده القادر على إعادة تجميع الشعب الفلسطيني، ومنح الأمل للأجيال الفلسطينية الشابة.

لو افترضنا أن حل الدولتين مقبول وعادل، ربما كان ممكنا لفترة أسابيع بعد حدوث العدوان الصهيوني عام 1967م، وهو العدوان الذي استكملت من خلاله إسرائيل احتلال بقية فلسطين، الضفة والقطاع (بالإضافة لاحتلال أراض مصرية وسورية). ربما كان ممكنا لو توافرت رؤيا سياسية فلسطينية وعربية سليمة، وإستراتيجية مقاومة فعالة. ولو كان ما يسمى بالمجتمع الدولي جادا، وذلك قبل أن تشرع إسرائيل في التوسع والتمدد الاستعماري الاستيطاني، الإحلالي، الذي كانت بدأته ورسخته في المنطقة المحتلة سنة 1948م.

المجتمع الدولي أقر حل الدولتين عام 1967م، كدولتين متجاورتين، وفي لغة قيادة منظمة التحرير الفلسطيني، آنذاك، كان حلا مرحليا. وفي عام 1988م، وفي أوج الانتفاضة الأولى، تبنت القيادة الفلسطينية حل الدولتين، بصورة رسمية، مانحة شرعية لقرار التقسيم الذي رفضه شعبنا، وثار عليه، عام 1947م. وفي عام 2002م تبنت الجامعة العربية في قمة بيروت، ما بات يُعرف بالمبادرة العربية للسلام، أي حل الدولتين. ما يعني الاعتراف بإسرائيل على 78% من أرض الوطن.

غير أن حكومات إسرائيل المتعاقبة رفضت كل هذه المبادرات، وبتواطؤ القوى الغربية، بل إنها لا تعترف بأن ما قامت به احتلال، والذي هو أخطر من الاحتلال، بل منظومة كاملة من الغزو والاحتلال والاستعمار الاستيطاني، والأبارتهايد. وبدل ذلك أقدمت على ضم القدس، والمباشرة، فوراً، بتنفيذ مخطط استيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل حتى في الجولان السوري، وسيناء.

لقد بات اليوم، عدد المستعمرين اليهود في الضفة والقدس يفوق 700,000 وحصرت 95%؜ من الفلسطينيين، في جزر معزولة وغير متواصلة، في منطقة A، و B، في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة المحاصرة. وبحسب صفقة القرن التصفوية، تسعى إسرائيل إلى ضم مستوطنات غور الأردن، وجميع المستوطنات، بدون حتى منح المواطنة لهؤلاء الفلسطينيين المشمولين بخطة الضم. وفي الوقت ذاته، لا توجد أي نية لدى المجتمع الدولي بفرض عقوبات على إسرائيل.

وهكذا تمكنت إسرائيل من دفن حل الدولتين، تحت المستعمرات الصهيونية.

ولذلك، فإن مواصلة التمسك بحل الدولتين، في ظل هذه المعطيات، يعني مواصلة منح الغطاء الفلسطيني، لمخطط تهويد الضفة الغربية والقدس، وترسيخ مشروعها الكولونيالي، وكيانها العنصري، وتعزيز السجون الكبيرة، وجدران الفصل العنصري، وما يترتب على ذلك من استمرار عذابات الفلسطينيين.

يحمل هذا الادعاء تناقضا كبيرا، لا ينتبه إليه أصحابه، بل حتى بعض الذين لا يريدون تحديد نوع الحل، والذين كانوا يُسْدون النصح للقيادة الفلسطينية، أثناء المفاوضات العبثية، حول آليات الحصول على دولة فلسطينية مستقلة (بروح حل الدولتين) في الضفة الغربية، والتي لم تكن لتتم بدون اتفاق رسمي موقع مع إسرائيل والمجتمع الدولي.

السؤال الاستنكاري الذي يجب أن يوجه لأصحاب هذا التوجه: أليس الاستسلام السافر، أليست الهزيمة الحقيقية، تكمن -أصلا- في التسليم بشرعية المستعمرة الأكبر، الأصل، أي بإسرائيل، وهي الكيان الاستعماري الاستيطاني، العنصري، على 78% من فلسطين، والتخلي عن حق العودة إلى داخل هذه المنطقة الفلسطينية المستعمرة التي تشمل الجليل، المثلث، النقب، ومدن الساحل الفلسطيني!

الا يعني ذلك التسليم بيهودية الدولة، أي بالصهيونية كواقع استعماري، وبتكريس دونية حوالي مليوني فلسطيني، حملة المواطنة الإسرائيلية، ومواصلة النهب، وممارسة الاستعمار الداخلي المميت ضدهم، والذي نرى نتائجه هذه الأيام، من خلال نشر الجريمة والقتل، ومفاقمة الفقر، والبطالة، وغيرها من الشرور الاجتماعية والأضرار المعنوية والأخلاقية المرعبة!

ألا يعني ذلك التخلي عن جوهر القضية الفلسطينية، ألا وهو حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم واستعادة أملاكهم المنهوبة.

إن منطلقات ومبادئ حل الدولة الديمقراطية الواحدة، تختلف جذريا. نعم يعترف هذا الحل بوجود ملايين اليهود الإسرائيليين على أرض فلسطين، كما اعترفت بهذا الواقع لأول مرة الحركة الوطنية الفلسطينية، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال تبنيها مشروع الدولة الواحدة، عام 1969م، لكن هذا الحل يشترط هزيمة الصهيونية المتجسدة ماديا في النظام الكولونيالي العنصري، القائم في فلسطين، ولا يمنحها شرعية، ولا غطاء أخلاقيا، ضمنا أو بصورة رسمية.

وإذا كان البعض يصر على اننا مهزومون، فنحن ملزمون بتصحيح هذا التشخيص، بالقول إن القيادة هي التي هزمت، وليس الشعب الفلسطيني وقواه الحية التي تكافح وتنشط من أسفل، بصورة منهجية.

من أبرز ما يميز سياسة النخب السياسية الفلسطينية المتنفذة الإصرار على التمسك بمسار اتفاق أوسلو، واعتبار أنه سيقود -حتما- إلى دولة فلسطينية على الضفة والقطاع وعاصمتها القدس، وإلى تطبيق قرار الأمم المتحدة بعودة اللاجئين وذريتهم إلى الوطن الذي هجروا منه، مستندين في هذا إلى ما تحقق من تمثيل فلسطيني في الأمم المتحددة وفي مؤسسات دولية أخرى. لكن هذه النخب تغفل حقيقة فشل مسار أوسلو التام في تحقيق الأهداف التي أمِلت بها. وحقيقة أن هذا الاتفاق بُني على رؤية سياسية قاصرة أغفلت أو تغاضت عن أن إسرائيل دولة استعمارية استيطانية ودولة أبارتهايد (فصل عنصري).

إن إنكار فشل مسار أوسلو، وحقيقة أن غالبية من الفلسطينيين باتت ترى أن “حل الدولتين” لم يعد حلاً عمليا (بنسبة أكثر من 62% من المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، حسب استطلاعات رأي) 1 ، لا يشكل فقط إنكارا لما نتج عن اتفاق أوسلو من اضمحلال لمكانة ودور الحركة الوطنية الفلسطينية وتشظي الشعب الفلسطيني، بل يعبر عن رفض واضح لتحمل المسؤولية عن اعتماد سياسة برهنت على قصر نظر شديد في إدراك طبيعة المشروع الصهيوني. كما برهنت على قصور فادح في قيادة السياسة الوطنية الفلسطينية في مجابهة المشروع الاستعماري الاستيطاني الزاحف دوماً.

لقد تخلت القيادة الفلسطينية المتنفذة، في الخطاب والممارسة، عن كون الصراع يعود إلى عام ١٩٤٨، وباتت النكبة الفلسطينية الكبرى مناسبةً يُحتُفى بها في يوم واحد سنوياً، وليس جزءاً من عملية استعمارية استيطانية تطهيرية عرقيا مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود، وحتى يومنا هذا. لقد جرى، بناءً على اتفاق أوسلو وملحقاته، تشويه فلسطين، جغرافيا وديموغرافيا وتاريخيا وثقافيا، بل واختصار المشروع الوطني الفلسطيني إلى دولة على جزء صغير من الوطن (بكل ما سيترتب على هذه الدولة من قيود أمنية واقتصادية وسياسية).

أما الحديث عن اللاجئين، فتجري الإشارة إليه وفق قرارات الأمم المتحدة، دون توضيح معاني عودة اللاجئين وأبنائهم وبناتهم وأحفادهم وحفيداتهم إلى الديار التي هُجّروا منها. هل يعودون بصفتهم مواطنين إسرائيليين منقوصي الحقوق والحريات (فردية وجماعية) أم بصفتهم مواطنين في دولة ديمقراطية متساوية الحقوق؟

إن الحديث عن إنجازات أوسلو التي تتحدث عنها سلطة أوسلو ونخبها لا تظهر للعيان للمواطن الذي يعاني التنكيل اليومي، واستمرار زج الفلسطينيين في المعتقلات الصهيونية، وفرض القيود على الحركة، والسيطرة على الموارد، والحدود، وتنكيل المستوطنين والجيش الإسرائيلي والتمييز والحصار والحجب الكامل لحق العودة.

بأي منطق يُقال إن النضال ضد نظام الفصل العنصري والتمييز الإثني ومن أجل إعادة توحيد فلسطين، يعني التخلي عن الإنجازات الفعلية أو المتخيلة، ولماذا لا يكون النضال من أجل دولة ديمقراطية واحدة متساوية الحقوق (للكل الفلسطيني ولمن يريد من اليهود الإسرائيليين) نضالاً من أجل الحقوق التي أقرتها المواثيق الدولية ولقرارات الأمم المتحدة، التي استجابت لحقوق الشعب الفلسطيني، بما فيه حق العودة، واستعادة الممتلكات التي صودرت عنوةً، والتعويض عما لحق بالشعب الفلسطيني من خسائر فردية وجماعية فادحة.

لماذا لا يكون – وهو كذلك- نضالًا لإنهاء التمييز العنصري والديني والجنسي والإثني، ومن أجل تفكيك المستوطنات، ومنع مصادرة الأرض، ومن أجل العودة إلى أرض فلسطين التاريخية. إن مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة يستدعي نضالًا متعدد الأشكال وذا نفَس طويل، وهو مشروع لا يستجدي حلًّا من الدولة المستعمِرة، ولا من الأمم المتحدة واللجنة الرباعية كما يفكر دعاة الدولة في الضفة والقطاع، بل يصارع من أجل حل عادل يلبي مصالح وحقوق الكل الفلسطيني.

إن الادعاء بإنجازات تحققت في ظل السلطة الفلسطينية وحكومة حماس هو ذرٌ للرماد في العيون، فما يُروَّجُ للناس على أنه إنجازات لا يتعدى ما تحظى به نخب محددة بحكم ما بات بحوزتها من سلطة وجاه وحرية نسبية، مع أن هذه السلطة لا تزال تحت هيمنة المستعمِر وسياسته العنصرية دون أن نشهد تدخلا فاعلا من “المجتمع الدولي – بما فيها مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة واللجنة الرباعية الدولية، وجامعة الدول العربية ومنظمة التّعاون الإسلامي.

لم يشهد الشعب الفلسطيني إجراءً دوليا واحدا يعاقب أو يردع المعتدى عن ارتكاب المزيد من الجرائم.

لقد باتت الإحالة على القانون الدولي وحده، بمَعزل عن رؤيا تحررية شاملة وإستراتيجية نضالية حقيقية، واستمرار التمسك بحل الدولتين، وصفَةً لإطالة عمر نظام الفصل العنصري الكولونيالي، الإجرامي، وتثبيتًا لميزان القوى لصالح المضطهِد، مما يعني إطالة عذابات الشعب الفلسطيني، والتسبب لغيرهم من الشعوب العربية بخسائر بشرية ومادية مستمرة.

أولا: تؤكد حملة الدولة الديمقراطية الواحدة على أن الاستيطان هو عدوان يومي ضد الشعب المحتل وضد حقه في أرضه وهو عدوان على حياته أيضا، ناهيك عن كونه يشكل انتهاكا سافرا للقانون الدولي، داخل الأرض المحتلة سنة 1967م،وهو- للأسف- القانون الذي لا يتبنى نفس الموقف تجاه عملية الاستعمار الداخلي الممارس داخل المنطقة المحتلة سنة 1948م.

وتَعُدُّ الحملةُ المشروعَ الاستيطاني الصهيوني – في كل فلسطين، منذ بدايته- غيرَ شرعي، ويجب مواصلة مقاومة هذه المخططات. وهذه المسألة – أي مسألة المستوطنات- سيتم البحث في كيفية حلها عندما تقترب لحظة الحقيقة، ويصبح النظام الصهيوني عاجزا عن مواصلة الحكم وعن إدارة مشروعه الاستعماري الإحلالي والإقصائي.

السؤال الذي يجب أن يُوجه لأنصار حل الدولتين، أو حتى لبعض أنصار الحل المرحلي في الضفة والقطاع، الذين يجهرون بإمكانية بقاء جزء كبير من المستوطنات في القدس والضفة الغربية – أي ما يسمى بالكتل الاستيطانية الكبرى- هو: إذَن، بماذا ننعت التسليم بهذه التجمعات الاستيطانية الكبرى، وإخراجها من تخوم الأراضي التي من المفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية، ومقايضتها بأراضٍ صحراوية في جنوب شرق قطاع غزة؟

أليس هذا تنازلا سافرا وشكلا آخر من تقويض مضمون حل الدولتين، وتحويله إلى مسخٍ على مسخ، خاصةً إذا أضفنا الاستعداد المعلن من قبل سلطة أوسلو قَبولَ دولةٍ منزوعةِ السلاح، وغيرها من متطلبات السيادة الأخرى!

إن حل الدولة الواحدة يقوم على تفكيك المستعمرة الكبرى (إسرائيل) التي يعود تأسيسها إلى سنة 1948م، وإزالة كل هياكل الهيمنة والسيطرة والقمع. وهي المستعمرة التي اعترف بها اتفاق أوسلو، واستسلم لها أنصار حل الدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، هذه الدولة أو الدوَيلة التي ستظل تحت رحمة المستعمرة الكبرى، بدون سيادة، أو سيطرة على مصيرها، وتطورها.

بطبيعة الحال ليس عادلا أن يتشارك الفلسطينيون مع المستعمرين الإسرائيليين، في بلادهم، وهم الذين أنكروا حقوقهم القومية، وطردوهم من وطنهم، ومن بيوتهم، ويستمرون في تنفيذ هذه السياسات والممارسات العدوانية حتى اليوم. لا يوجد عدلٌ مطلق. نحن نتحدث عن عدل نسبي، والعدل النسبي ليس حل الدولتين، بل حل الدولة الديمقراطية الواحدة، التي تتضمن عودة اللاجئين إلى ديارهم، وتحقيق المواطنة المتساوية، وإقامة مجتمع مدني مشترك ومتساوٍ.

لقد بات الوجود اليهودي الكبير في فلسطين واقعا، ولا أحد يطرح فكرة مواصلة القتال لعقود طويلة أخرى لطردهم، كما حصل مع مشاريع استعمارية أخرى، كالمشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر. طبعا في إطار نظرة تاريخية بعيدة المدى، تحقيق هذا الهدف ليس مستبعدا أو مستحيلا، وربما يمكن أن يحصل بعد خمسين أو مِائة عام وربما أقل، إذا واصلت الحركة الصهيونية ممارسة جرائمها، ورفضت كل الحلول الإنسانية والعادلة، وإذا ظهر جيل جديد مقاتل أقل تسامحا وأكثر تشددا، في حقبة بعيدة قادمة.

ولكن هذا سيكلف الأجيال القادمة -أبناءنا وأحفادنا من الطرفين- أنهارًا من الدماء وإزهاق أرواح كثيرة. فلماذا يواصل أبناؤنا وأحفادنا، وشعوب المنطقة العربية -خاصة المحيطة بفلسطين- العيش في حالة حرب مكلفة ودموية -لنصف قرن أو قرن، أو أكثر- مع وجود إمكانية كبيرة لتحقيق عدل نسبي، يقوم على القيم الإنسانية الكونية، كالديمقراطية والانفتاح والتسامح؟

إن الأُنموذَج المقترَح هو أُنموذجُ الحل في جنوب إفريقيا، حيث تم إسقاط نظام الأبارتهايد السياسي الوحشي، واستبداله بنظام سياسي ديمقراطي، وقبول سكان البلاد الأصليين -أي السود- التعايش مع أحفاد ونسل مستعمريهم البيض، بعد تجريدهم من أجهزة السيطرة والقمع.

وبالرغم من نواقض هذا الأنموذج -خاصة فيما يتعلق بالإبقاء على الأبارتهايد الاقتصادي الظالم- فإنه يبقى أُنموذَجًا ملهِما لشعبنا وأحرار العالم.

في إطار البحث عن حل خارج حل الدولتين المتعارف عليه، يجري التداول بأشكال مختلفة للدولة الواحدة، أو نوع من الكونفدرالية مع الأردن. طبعا فكرة الكونفدرالية هي الأسهل لتسويقها للإسرائيليين، لأنها لن تمس الجغرافيا التي استحوذت عليها إسرائيل، وكذلك بِنية المجتمع الاستيطاني الصهيوني العدوانية. إنها تحمل نفس العيب الكامن في حل الدولتين؛ أي استحالة خلق مكوّن فلسطيني ذي سيادة كاملة ومستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، لا سيّما في ظل ظروف ترسخ المشروع الاستيطاني وتواطؤ المجتمع الدولي، ودعم الإمبريالية الأمريكية المباشر لنظام الأبارتهايد في فلسطين.

كذلك، فإن فكرة الدولة الثنائية القومية قد تكون أسهل -نسبيًّا- للتسويق، إسرائيليا، من حل الدولة الديمقراطية القائمة على المواطنة المتساوية، أي الأنموذج الديمقراطي اللبرالي، الذي يعترف – في نسخته الحديثة- بالحقوق الثقافية الجماعية، ويصونها.

في الأوساط المؤيدة للدولة الواحدة، ثَمَّ من يتبنى دولة ثنائية القومية، على أساس نفي الاعتراف بالصهيونية كحركة قومية، وهذا نقاش مشروع ولن يتوقف، كغيره من النقاشات. غير أن الحملة لا تتبناه، ولكنها تحترم هذا النقاش، وتحمي الحقوق الثقافية الجماعية لكل المجموعات التي يتساوى أفرادها في المواطنة، في دولة كل مواطنيها.

أما النقد أو التخوف السائد بخصوص الدولة ثنائية القومية، أي اعتماد المساواة بين “قوميتين” في دولة واحدة، بدل اعتماد المساواة بين الأفراد، بين العرب واليهود، هو أن الدولة ثنائية القومية قد تعني اعتراف الفلسطينيين بالصهيونية، كحركة قومية في حين هي حركة استعمارية مارست ولاتزال الجرائم ضدهم. فاليهود ليسوا قومية والحركة الصهيونية ليست حركة تحرر وطني، بل جماعة يهودية صهيونية أوروبية حولت اليهودية إلى حركة قومية كولونيالية عنصرية إحلالية، منذ أواخر القرن التاسع عشر، رغم معارضة غالبية يهود العالم.

أي أنها لم تقاتل المستعمر البريطاني الذي سيطر على فلسطين، بل كانت جزءًا منه، وقاتل هذا التحالف الثنائي سكان البلاد الأصليين، طرد أكثر من نصفهم بوحشية، وسرق وطنهم.

إن حملة الدولة الواحدة تعترف بتشكل مجموعة يهودية في فلسطين ذات مواصفات مشتركة لمجتمع موحد، كاللغة والثقافة، وإن لم تحسم مسألة من هو اليهودي، والذي تم من خلال عملية استعمارية استيطانية، مما يستدعي مراعاة حقيقة هذا الوجود، في إطار كيان سياسي ديمقراطي واحد، متعدد الثقافات واللغات، تحت حماية ديمقراطية دستورية.

لا يشكل هذا المعطى، عند الكثير من القانونيين الفلسطينيين والأجانب على حدٍ سواء – ناهيك عن الكثير من علماء السياسة- مسوّغًا للامتناع عن اقتراح حل بديل عن الدولتين، ولا رادعا لتبني حل الدولة الديمقراطية الواحدة. ويتبنى آخرون مبدأ العدالة وخطاب الحقوق لكل الفلسطينيين أينما كانوا، وفي المقدمة حق اللاجئين بالعودة والتعويض، وذلك بمعزل عن الحلول.

القانون الدولي له وجهان، الأول يتمثل بالقوة، والآخر بالعدالة. وللتوضيح: مارست، وتمارس، إسرائيل انتهاكا منهجيا للقانون الدولي، والدوس على حقوق الفلسطينيين، ومواصلة التهويد والتوسع الاستعماري. في المقابل، ينشط طيف واسع من التيارات السياسية والاجتماعية، بصورة مثابرة، لتجيير المنظومة القانونية الدولية لصالح العدالة. على سبيل المثال، تستند حملة المقاطعة الدولية ضد إسرائيل، على مبادئ العدالة، التي يدعي القانون الدولي أنه يناصرها.

لا شك أن قانون حقوق الإنسان الدولي يساند معظم مطالب حقوق الفلسطينيين، وخاصة حق اللاجئين بالعودة، وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194، ناهيك عن مبدأ المساواة. ولكن يمكن فهم القانون الدولي بصورة صحيحة -أو الأصح فائدته أو قصوره وعيوبه وفشله- عندما نضعه في سياقه التاريخي فقط. إن جذور القانون الدولي هي استعمارية، أي أنه جاء في ظل ميزان قوى بين القوى الاستعمارية، وجزئيا، نتاج نضال الشعوب من أجل حق تقرير المصير، وحقوق الإنسان، ولكن مع أنه تم الاستعانة به للنضال ضد الكولونيالية في سنة 1960م، فقد تم إعفاء دول كولونيالية، مثل إسرائيل، من الإدانة.

إن السبب الرئيس لهذا الموقف هو أن القانون الدولي يقدس سيادة الدول، ومن النادر – وتحديدا في الدول الغربية- أن يجري تحدّي هذه السيادة. وهو الموقف الذي أتاح لإسرائيل فرض الحكم العسكري، داخل حدودها حتى سنة 1966م، على من نجا من الفلسطينيين، من الطرد، ليتم فرضه على الضفة وقطاع غزة بعد احتلال سنة 1967م، وفرض الحصار الإجرامي على القطاع منذ عام 2006م.

وقد فشلت، فشلا ذريعا، محاولات خمسين سنة من البحث عن حل يسمح بدولتين ذواتَيْ سيادة في فلسطين التاريخية، وذلك لسببين:

الأول: إن ميزان القوى، والنظرة الاستشراقية، والإسلاموفوبيا، كانت العوامل التي عززت تقارب العالم الغربي لإسرائيل وتعريفه لحل الدولتين، وهو الحل الذي يرسخ الاحتلال، ونظام الأبارتهايد داخل إسرائيل، وحصار قطاع غزة، وإنكار حق اللاجئين بالعودة. وهو الحل الذي تكيفت معه السلطة الفلسطينية في رام الله، ورسخته في الخطاب الفلسطيني الرسمي، بتواطؤ شرائح واسعة من النخب (وهو يختلف عن الحل المرحلي للسنة 1974م).

الثاني: إن ما يسمى “عملية السلام” تجاهلت الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، وقد قتل السلام وبقيت العملية، كوسيلة للتضليل والتغطية على توسع المشروع الإستيطاني.

في الأماكن (كما هو الحال في نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا) حيث إن تغيير النظام يمكن أن يجلب السلام والمصالحة فقط، وحيث تناضل شعوب أصلانية من أجل الحقوق التي ليس لها مكانة في القانون الدولي، ما يهم في هذه الحالة هو الشرعية الدولية التي نأمُل أن تعيد تحديد أو تعريف القانون الدولي من خلال نضالات مستقبلية.

لذلك، ليس في الإمكان –حاليًّا- أن يجد حل الدولة الواحدة مكانا له في القانون الدولي، الذي لا يتضمن صلاحية لتحدي الكولونيالية الإسرائيلية. لكن هذا القانون يشمل خطاب الحقوق، وشرعية النضال من أجل هذه الحقوق.

إن إدراك الطبيعة الكولونيالية لإسرائيل ينبغي أن يقود إلى رغبة بتفكيك الطابع الكولونيالي عن كل فلسطين. هذا الإدراك، مع تراكم نضالات كثيرة لشعوب أصلانية في مختلف مناطق العالم، لن يعيد التأكيد على شرعية حل الدولة الديمقراطية الواحدة، الذي لا يمكن إنكاره، فحسب، بل أيضا سيمنحه تسويغا قانونيا.

ومن المهم الإشارة أيضا، إلى أنه لا سند ولا شرعية في القانون الدولي، لدول أو أنظمة عنصرية، أي لا سند لدولة تعلن نفسها دولة اليهود فقط، وليست دولة المواطنين. إن قرار التقسيم، الذي نص على إقامة دولتين مترابطتين إقتصاديا، بالرغم مما يحمل من ظلم فاحش بحق الشعب الفلسطيني، لم ينص على إقامة دولة يهودية عنصرية، تطرد سكانها العرب وتمنع عودتهم، وفق القرار الدولي المعروف رقم 194، أو تقوم على منظومة قانونية تفضل مجموعة دينية، أو عرقية او قومية على أخرى، وتمارس أبشع الجرائم بحقهم.

بل اشترطت منظمة الأمم المتحدة على قادة العصابات الصهيونية، حكام الدولة الجديدة، التعامل مع جميع المواطنين، بمساواة، للاعتراف بشرعية دولتهم. الأمر الذي لم يحدث حتى اليوم. وهذا تحديدا، يشكل رافعة قانونية وأخلاقية في النضال من أجل استبدال نظام الأبارتهايد الصهيوني بنظام ديمقراطي إنساني يقوم على القيم الكونية المعترف بها.

نعم، عملية التحرر الفلسطيني والعربي مترابطة تاريخيا وفكريا وحضاريا وفي فترة النهوض القومي العربي، خاصة فترة الخمسينات والستينات، بل منذ نشوء المسألة الفلسطينية، كانت قضية فلسطين – بصفتها قضية تحرر وطني- في مركز الأجندة العربية الرسمية والشعبية، وكانت محركا لأحداث سياسية كبيرة، ولتحولات كبيرة وإن لم تقد إلى أهدافها المنشودة، بل تحولت مع الوقت، ومع تراكم الفشل في معركة التحرير، إلى أداة في يد الأنظمة لتثبيت عروشها، ولقمع منتقدي هذا الفشل والعجز، من أفراد أو أحزاب سياسية، أو منابر إعلامية، وهو ما أدى إلى انفجار بركان الغضب عام 2011م. كما كانت المقاومة الفلسطينية ملهمة للجماهير الشعبية في نضالها ضد الإمبريالية والهيمنة الخارجية.

إن المنطقة العربية، كما الشرق الأوسط عموما، وشمال إفريقيا، لا تزال ترزح تحت مخلفات إرث الحقبة الاستعمارية، وحقبة ما بعد الاستعمار، الذي يعيق نهوضها السياسي والتنموي. وتشكل أنظمة الفساد والطغيان – ملَكية أو جمهورية- وكذلك التأخر الحضاري بمفهومه الشامل، والفشل في تحقيق التحرر الخارجي والداخلي، مكونات هذا الإرث المتوالد. وهذا ما يجعل هذه الأنظمة تابعة لمحاور دولية وإقليمية، وفاقدةً لقرارها المستقل. وقد بات النظام السياسي الفلسطيني، بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو الاستسلامية، صورة من صور النظام العربي الرسمي، وأداة من أدوات السيطرة الاستعمارية الإسرائيلية على سكان الضفة الغربية، بل في فلسطين عموما، وفي ترسيخ الانقسام المستمر.

بناء على ذلك، إن تفكيك الاستعمار يجب أن يتم في عموم المنطقة العربية وليس في فلسطين فحسب.

تحوي المنطقة العربية تنوعا ثقافيا ودينيا وإثنيا، واسعا وغنيّا، وهو حصيلة تفاعل وتلاقح حصلا على مدار مئات القرون، وتعايشت دياناتها بصورة أفضل بكثير مما كان عليه الحال في أوروبا قبل الثورات الصناعية والسياسية، حيث لوحق واضطهد اليهود. ويحق لشعوب المنطقة حق تقرير المصير في اتحاد، أو وحدة، وسوق مشتركة، أو أي شكل من أشكال الوحدة والاتحاد، الذي يقوم على الاختيار الحر، والسماح للشعوب بممارسة خياراتها من خلال عملية ديمقراطية حقيقية، وتنمية اقتصادية مستقلة، ومن خلال الحفاظ على انتمائها لهويتها الحضارية العربية الإسلامية والمسيحية.

الفلسطينيون لم ينتظروا أحدا، وهم يمارسون المقاومة ضد المشروع الكولونيالي الصهيوني، منذ أن انكشفت كامل حقيقته وأهدافه، في بداية القرن العشرين. وسارت مقاومتهم، وتصاعدت، جنبا إلى جنب مع نضال الشعوب العربية، بعد صدور وعد بلفور ومخطط “سايكس – بيكو” التقسيمي. ويواصلون مقاومتهم بأشكال مختلفة، ووفق ما تسمح به الظروف، ويرفضون الاستسلام، رغم ضعف قياداتهم وعجزها، وعجز وتواطؤ وخيانة الأنظمة العربية.

إن الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية ستكون جزءًا من المنطقة التي نعيش فيها وننتمي إليها. ويمكن أن يكون لهذا الأنموذج الديمقراطي للدولة الفلسطينية الواحدة المنشودة صدى في أوساط الشعوب العربية، ودورا ملهما للنضال من أجل دولة قوية ومجتمع قوي، ركيزتهما: الاستقلال، والديمقراطية والحرية، والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية.

ولهذا من الطبيعي، والضروري، أن تسعى القوى الوطنية التقدمية والديمقراطية الفلسطينية، إلى إعادة التواصل العضوي مع قوى التحرر العربية، التقدمية، والمتنورة، وأن تتفاعل مع هموم المواطن العربي، ومشاكله الحياتية، وطموحه في العيش في ظل نظام يضع الإنسان وحريته وكرامته وحقه في الحياة، في مركز أجندته.

لم يعد مقبولا، لا سياسيا، ولا إسترتيجيا، ولا أخلاقيا، النظر إلى نضالاته بصورة أداتية، أي لخدمة قضية فلسطين فقط، على حساب همومه. ما معناه، لا يجوز لنا كفلسطينيين التخلي عن التضامن مع محنته، في مواجهة أنظمته المتوحشة، التي تقمعه وتجوعه، وتسحقه في السجون، وترتكب الجرائم والمجازر بحقه، بحجة الممانعة، أو كجسر للتطبيع والتحالف مع المستعمر.

إن المتغيرات العاصفة التي تشهدها المنطقة العربية، والإقليمية، والدولية، وتحرر الشعوب من الخوف، وقرارها بأخذ مصيرها بيدها، والانتفاض على أنظمة الاستبداد، وعلى النظام العالمي الظالم، تستلزم التحالف وتوطيد التحالف مع الشعوب وهمومها الإنسانية.

بالرغم مما تعرض، ويتعرض، له الفلسطينيون من طرد وتهجير، وإفقار، واحتلال، واستيطان، وتمييز وحرمان، فإنهم في وضع قوي يؤهلهم للحاق بالتطور العلمي والاقتصادي الحديث، في فترة قصيرة نسبيا.

فمع أنهم يرزحون تحت الاحتلال، والتهجير، والتمييز، والعيش في المخيمات، وما يترتب على ذلك من تحديات ومصاعب هائلة أمامهم، فقد حققوا أعلى النسب على مستوى العالم في القراءة والكتابة (91%) ونسبًا عالية في التعليم العالي. وفي الخارج يوجد عدد كبير من الفلسطينيين أصحاب المهن في الطب والعلوم والتكنولوجيا والانسانيات والادارة، ويمكن لهذه الخبرات أن تستثمر في اقتصاد متطور، وفي تمكين المجتمع الفلسطيني.

سيتعيّن على المنادين بالدولة الديمقراطية الواحدة، التعلم من تجربة جنوب إفريقيا من إيجابياتها ونواقصها، حيث تنازلت قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي في أثناء المفاوضات مع نظام الأبارتهايد، عن مبدأ العدالة الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية، الذي كان يشكل أحد عناصر الرؤيا الاجتماعية.

لقد سقط النظام (أوالأبارتهايد) السياسي، بفضل مسيرة نضال طويلة، وبطولات كفاحية، وتضحيات كبيرة، وعذابات لا حدود لها، ولكن تم الإبقاء على الأبرتهايد الاقتصادي تحت سيطرة البيض، مما فاقم الفجوات الاجتماعية واللامساواة، وزاد التوترات الاجتماعية كالعنف والجريمة وغيرها.

ولهذا تطرح حملة الدولة الواحدة في برنامجها مبدأ العدالة الاجتماعية والاقتصادية، تفاديًا لهذا المآل، وحرصًا على السلم الداخلي، الأمن الشخصي، والتماسك المجتمعي.

يصل عمر تجربة “حل الدولتين”، إلى خمسة عقود تقريبا. قدمت خلالها قيادة منظمة التحرير، المتنفذة، وكثمن لذلك، تنازلات لم تقدمها أي حركة تحرر في التاريخ المعاصر، حتى في أكثر حالاتها ضعفا.

تنازلت القيادة الفلسطينية المتنفذة عن 78%؜ من الوطن، واعترفت بدولة المستعمر القائمة فيه، وعلى أنقاض شعب بأكمله. وتنازلت عن حق ملايين اللاجئين، في العودة إلى ديارهم وبلداتهم التي طردوا منها. كما تخلت عن حق الفلسطينيين، حمَلة المواطنة الإسرائيلية، في تقرير المصير، وسلمت بكونهم شأنا إسرائيليا داخليا، داخل دولة تعرف نفسها بأنها دولة اليهود، يهود العالم، وليست دولة كل مواطنيها.

وبدل أن تفرض أو تشترط على المستعمر الاعتذار عن كل ما أذاقه من عذاب وآلام وحرمان بأهل فلسطين على مدار أكثر من قرن، أدانت القيادة الفلسطينية المقاومة الفلسطينية، من خلال إدانة الإرهاب، أي النضال الفلسطيني. كل ذلك مقابل منح حكم ذاتي، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد تخليها عن ميثاقها الوطني، كبديل عن الاعتراف بالشعب الفلسطيني، وبحقه في تقرير المصير والعدالة والمساواة.

ماذا يعنيه ذلك، وما الثمن وما النتيجة الماثلة أمامنا، بعد عقود من الركض وراء الأوهام؟

أولا: ترسيخُ تمزيقِ الشعبِ الفلسطيني جغرافيا وديمغرافيا، وتثبيت المشروع الكولونيالي فضلا عن التخلي عن قاموس الصراع التحرري، وقيمه الأخلاقية، الذي يحدد طبيعته باعتباره صراعا يخوضه شعب أصلاني ضد نظام استعماري أجنبي، سرق وطنه وشرد أهله. أي التخلي عن خطاب النضال ضد الكولونيالية والفصل العنصري، الذي كانت منظمة التحرير تتبناه.

ثانياً: التخلي عن حل الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل فلسطين، الذي تبناه المجلس الوطني الفلسطيني عام 1969م، وإهدار الطاقة التحشيدية، والمضمون الحضاري الذي يكمن فيه.

ثالثا: انحلال الحركة الوطنية وانقسامها، وخسارة أداة التحرير التي أعادت توحيد الشعب الفلسطيني بعد النكبة، وتحولت إلى البيت المعنوي لكل فلسطيني، أينما وجد، ألا وهي منظمة التحرير الفلسطينية التي باتت مؤسسة تابعة لسلطة رام الله. لقد تم تحويل هذه المنظمة، بعد اتفاقية أوسلو، إلى هيكلٍ أجوف بلا معنى، وقد باتت نداءات الإصلاح وإعادة بنائها، التي سبقت توقيع هذه الاتفاقية الكارثية، إلى كليشيه، مكرر، كممارسة طقوسية، شعائرية.

رابعاً: فقدان جميع الدول، من أصدقاء الشعب الفلسطيني، وتحولها، مع التحولات العالمية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى دول صديقة للكيان الصهيوني. ظنت هذه الدول مباشرة بعد اتفاقية أوسلو أن القضية الفلسطينية في طريقها إلى الحل، وبعد تغير الحكومات فيها حلت المصالح مكان المبادئ في سياق طغيان النظام النيولبيرالي.

كما كانت حركات التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، من ضحايا اتفاقية أوسلو. ولم تبدأ هذه الحركات بالعودة إلى دورها السياسي والإنساني تِجاه الشعب الفلسطيني، إلا بعد الانتفاضة الثانية، وإقدام إسرائيل على اجتياح مناطق سلطة أوسلو، والحصار الوحشي لقطاع غزة، وبعد إطلاق حركة المقاطعة الفلسطينية، المدنية، ضد إسرائيل.

إذن، الشعب الفلسطيني خسر كل مصادر وركائز قوته المركزية مقابل وعد بدولة على جزء صغير من وطنه. خسر معظم نقاط ومصادر قوته المتمثلة في وحدته كشعب واحد في الداخل والخارج، وفي وحدة وقوة حركته الوطنية، وفي خسارة أداة التحرير وقبل التمكن من تحرير الوطن أو جزء منه، وخسارة خطابه التحرري الوطني والإنساني، وخسارة أصدقائه. وتخليه عن حل كان قادرا على تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني، وأن يأسر خيال العالم، كما فعل حل الدولة الواحدة في جنوب إفريقيا، وعلى استقطاب الأصدقاء، من دول ومجتمعات مدنية.

بناء على ذلك، فالمنطق يقول بضرورة استعادة جميع نقاط ومصادر قوته التي خسرها، وينطلق مجددا من خلال تبني برنامج سياسي، تحرري، يحدد الحل النهائي، الذي يوفر رؤيا واضحة للشعب الفلسطيني، ينهي تشتته، وينهي حالة فقدان الطريق والرؤيا، ويحشده في النضال، ومن ثم وضع إستراتيجية عمل، تتضمن أهدافا مرحلية ونهائية، لتحقيق الهدف، أي هزيمة نظام الأبارتهايد الكولولونيالي، وإقامة نظام ديمقراطي، يحقق العدالة والمساواة للجميع.

كل هدف يوضع لتغيير الواقع، يبدو للكثيرين في المرحلة الأولى مثاليا وبعيد المنال. لكن أي فكرة كبيرة أو صغيرة تبدأ بالحلم والتخيل. الرغبة في التغيير، تبدأ بالتخيل، تخيُّل حياة أفضل، تخيّل أن الواقع المعاش ليس قدرا، ويجب، ويمكن، تغييره أو تعديله.

والأمة التي تعجز عن التخيّل لا تستطيع أن تتقدم، وستبقى ترزَح تحت الأغلال، أغلال الماضي والتخلف الداخلي، وأغلال القهر الممارس من الأعداء.

على سبيل المثال: كان على الشعب العربي الجزائري، أن يتخيل بلاده بدون المستعمرين الفرنسيين، والعيش بحرية. وكان على السود سكان جنوب إفريقيا تخيل بلادهم بدون فصل عنصري، وتمييز، وقمع وهيمنة البيض، والعيش مع هؤلاء البيض في دولة ديمقراطية حرة، يتساوى فيها الجميع. ووضع الجزائريون والسود- كما شعوب أخرى عديدة، خاضت نضالات تحررية مشابهة- خططاً عملية، خضعت للتطوير والمراجعة المستمرة، في سبيل تفكيك أنظمة الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري وتحويل أحلامها إلى واقع، وهذا ما تحقق، بعد أكثر من 130 سنة من البناء والنضال.

وبخصوص مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية؛ إن حملة تفكيك نظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الصهيوني، متقدمة أكثر بكثير مما يتخيل البعض، إذا أدركنا، أو اتفقنا، على أن نزع الطابع الكولونيالي لأي كيان استعماري يبدأ بتفكيكه نظريا، وتعرية حقيقته، باعتباره منافيا للمبادئ الإنسانية والدولية.

فالإنجازات المبهرة التي تحققها اللجنة الوطنية للمقاطعة على الصعيد العالمي تساهم في تقويض صورة ومكانة إسرائيل، وتقدمها على حقيقتها كنظام مناهض للقيم الإنسانية الكونية.

فبعد أن انكشفت حقيقة إسرائيل، أكثر من أي وقت مضى، ورفضها لأي نوع من المصالحة، وللحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، ومواصلة مشروعها الاستيطاني، بكل قوة، وحروبها العدوانية الوحشية، تجددت المواجهة الفلسطينية الشعبية مع الواقع الكولونيالي، داخل فلسطين وعلى ساحة المجتمع المدني العالمي خاصة في أمريكا الشمالية وأوروبا.

وقد نجحت حركات مدنية شعبية فلسطينية في تحريك وتجنيد شرائح واسعة من المجتمع المدني العالمي حول قضية الشعب الفلسطيني كجزء من الشعوب المظلومة، من خلال حملات ونشاطات متنوعة، تتمثل في المؤتمرات، والحراكات الطلابية في الجامعات الغربية، وإصدار الكتب والمواد الإعلامية، والأفلام، وكتابة المقالات. وليس رعب إسرائيل من دور حملة المقاطعة، المعروفة إختصارا بالإنجليزية BDS إلا لكونها تدرك أنها بدأت تخسر في ساحة الشعوب، رغم تمتعها بدعم دولي رسمي قوي.

ما يغيب على الساحة الفلسطينية، هو الرؤيا، والهدف السياسي النهائي، وإستراتيجية تحررية طويلة الأمد، يلتف حولها الشعب، وأحرار العالم. بما فيهم اليهود المناهضون للاستعمار، والمناصرون للتحرر والعدالة. وهذا ما تسعى الحملة للإسهام فيه.

ليس التمسك بهذا الحق، أو النضال من أجل تحقيقه، متعلقا بموافقة إسرائيل أو أي طرف آخر. إن حق العودة للاجئين والمهجّرين الفلسطينيين وسلالاتهم إلى ديارهم التي طردوا منها هو حق ثابت وراسخ. لا يسقط بالتقادم وليس شأنًا للتفاوض. كما تضْمن القوانين والأعراف الدولية للعائدين والعائدات حقهم في استعادة أملاكهم والتعويض عما تم تدميره والتعويض عن الضرر والخسارات والآلام التي سبّبها اللجوء والتشريد على مدى قرون.

نحن نَعُدّ العودة لبَّ العدالة وركيزة الحلّ السياسي للقضية الفلسطينية وجزْءًا لا يتجزّأ من عملية التحرر والتحرير وتفكيك المنظومة الاستعمارية في فلسطين، إذ لا يمكن تخيّل مستقبل عادل لفلسطين وشعبها بدون تطبيق حق العودة. وبالموازاة، لا يمكن تخيّل العودة إلى فلسطين وهي تحت نظام كولونيالي عنصري، فليس من المعقول أن يعود اللاجئون الفلسطينيون إلى ديارهم ليصبحوا “مواطنين”، بل مواطنين من الدرجة الثانية، في دولة استيطانيّة أنشأها مهجّرهم ومستعمرهم.

بناء على تلك الثوابت ننادي – نحن في “حملة الدولة الديمقراطية الواحدة”- ليس بالاعتراف بحق العودة فقط، بل بالعمل على تطبيقه وبناء برنامج نضاليّ عمليّ من أجل ذلك. وبما أننا نُعوّل على ضرورة رفع الوعي وتطوير الفكر، وعلى تبنّي رؤى سياسية مستقبلية، فإننا نرى من الضرورة بمكان، دمج تصوّر العودة في تصوّر الدولة الواحدة ونظامها السياسي وطابعها الاجتماعي والثقافي الذي نصبو إليه.

إذ ستخلق عودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم تغييرًا دراماتيكيًّا في فضاء فلسطين والمنطقة العربية وسيكون لها آثار محمودةٌ في كل مجالات الحياة: سياسيًّا وديموغرافيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وغير ذلك.

حتى تنجح العودة، يجب أن تكون مدروسة ومخططة. فيجدر بنا، كشعب وحركات وقيادات ومفكرين، سواء كنّا لاجئين في المخيمات أو في الشتات أم كنّا مقيمين في الوطن، أن نجري عملية تحضير ودراسة وتوعية واستعداد للعهد الجديد، ألا وهو عهد العودة وما بعد العودة.

لأننا ندرك أن فلسطين الحقيقيّة التي سنعود إليها تختلف عن فلسطين المتخيّلة التي هجّرنا منها قبل أكثر من سبعين عامًا، ولأننا ندرك أن عدد العائدين يبلغ اليوم أكثر من سبعة ملايين فلسطينيّ وفلسطينية- عشرة أضعاف عدد الذين هجّروا عام النكبة، ولأننا ندرك أن احتياجات وأسلوب حياة جيل العودة تختلف كليًّا عن تلك التي حملها جيل النكبة، ولأننا ندرك أن نظام الاستعمار دمّر الغالبية الساحقة من منازل اللاجئين في القرى والمدن الفلسطينية المهجرة واستولى على أراضيهم بل وعلى أراضي فلسطينيي ال 48 الناجين من التطهير العرقي.

ولأننا ندرك، بالمقابل، أن الاستعمار أقام مئات المستعمرات والمؤسسات والمنشآت للمستعمِرين ويسكن فيها اليوم نحو سبعة ملايين يهودي، لأننا ندرك ونرى كل هذا وغيره من نتائج الاستعمار، يتوجب علينا أن نطرح رؤيتنا وتصوّرنا للعودة الفعلية، وأن نترجم مفهوم العودة، التي تبدو بعيدة بل مستحيلة المنال والحصول، من حلم طوباوي إلى برنامج نضالي عملي تنفيذي يواجه ويجابه إفرازات الاستعمار على مدى سبعة عقود.

إنّ طرح مشروع سياسي للعودة الفعلية سيسهِم في صياغة ثقافة العودة بدلًا عن ثقافة اللجوء، ثقافة المبادرة لصنع المستقبل بدلًا عن ثقافة انتظار الحلول من قبل مجهول.

إن الخوض في بلورة العودة الفعلية ورسم معالمها وكيفية تنفيذها يكشف أمامنا إمكانيات متعددة لتصوّر المستقبل، بناء على فهم الواقع الراهن ذي العلاقة بالعودة وبإعادة بناء البلدان المدمرة.

فعلى سبيل المثال يكشف عالم الجغرافيا، والشخصية الوطنية المعروفة، سلمان أبو ستة، أن أكثر من ثمانين بالمئة من القرى الفلسطينية المدمرة تقع داخل أحراش ومتنزّهات إسرائيلية وأنها غير مأهولة. مما يعني أن العودة إلى هذه البلدان وبناءها من جديد لن يتصادم على أرض الواقع مع مستعمرات مسكونة.

وبما أننا لا نرى في حل الدولة الواحدة تهجيرًا قسريًّا للمستعمِرين، بل منح الفرصة لمن يشاء منهم للعيش كمواطن مثل سائر المواطنين، فهذه الجزئيّة تكون مهمة لاستيعاب عمَلانيّة العودة وواقعية تطبيقها.

وفي نفس الوقت نتعامل مع تحدّيات بخصوص حلول مختلفة لتطبيق العودة في أماكن مختلفة، فالعودة إلى مكان ما زال فارغًا مثل دير أبان أو عنابة قد تختلف عن العودة إلى مكان مستعمَر مأهول بالسكان اليهود كقرية بلد الشيخ التي بُنيت علي أنقاضها مدينة نيشر الإسرائيليّة أو قرية المجيدل التي أقميت عليها مدينة مجدال هعيمق.

وأنّ العودة إلى قرية مهجرة مثل معلول التي بني عليها موقع عسكري يمكن ويجب تفكيكه قد تختلف عن العودة إلى قرية مهجرة مثل الشيخ مونّس التي أقيمت عليها جامعة تل أبيب، كما أنّ العودة إلى عدة قرى متجاورة كانت صغيرة عام النكبة قد تتحول إلى عودة لمدينة واحدة جديدة تجمع العائدين من كل تلك القرى، وما إلى ذلك من “عودات”.

كيف وأين ستتم العودة مثلًا إلى القرى الصغيرة التي لن تكفي أراضيها لاستيعاب عشرة أضعاف عدد سكانها الأصليين؟ كذلك الحال بالنسبة لسكان المدن الكبيرة الذين لم يملكوا سوى منازلهم التي سكنوها، فأين وكيف سيعود أحفادهم؟ وهل ستختلف عودة اللاجئين الفقراء عن عودة اللاجئين الأغنياء؟

لا ندعي أننا نملك إجابات عن كل هذه التساؤلات، ولكننا نرى أن المسؤولية السياسية تتطلب -على الأقل- تبيين هذه التحديات ونقاشها ومحاولة إيجاد الحلول لها استعدادًا لساعة الصفر والعودة الحقيقية.

أمام الفكرة تحديات موضوعية هائلة، تتمثل في واقع الحركة الوطنية الفلسطينية الراهن، واكتساح المشروع الكولونيالي كل فلسطين، والواقع العربي والدولي المتردي.

لكن التحدي العملي الأولي أمام المنادين بالدولة الديمقراطية الواحدة، هو تأسيس حركة شعبية واسعة، أي الانتقال من المجموعات المتفرقة، التي أخذت حتى الآن صبغة أكاديمية، إلى الميدان، والانطلاق للإسهام في تغيير ميزان القوى الذي يبدأ أولا بتغيير الوعي، واستعادة القاموس السياسي التحرري، ومفرداته السياسية والأخلاقية، ليكون المنطلق الفكري الذي تنطلق منه الأجيال الجديدة، وتتشكل حوله المبادرات المتعددة.

إن تأسيس الحملة، بصفتها إطارا جامعا، يشمل فلسطينين من كافة تجمعات الشعب الفلسطيني، ويهودا مناهضين للصهيونية، وانطلاقا من أرض فلسطين، بهدف العمل للتحول إلى حركة تحررية شعبية، هو ما يشكل إضافة جديدة إلى جميع المبادرات المهمة، الأكاديمية والفكرية، التي نادت بالدولة الواحدة.

كما يميزها أنها حملة اندماجية، اندمج فيها حتى الآن مجموعات وأفراد كانوا دائما منخرطين في حراك من أجل حل الدولة الواحدة. وهذا تمشيا مع توجه الحملة الرسمي، الذي يتمثل بالانفتاح على، واستيعاب كل المعنيين فيها، على قاعدة الشراكة الكاملة في العمل والنضال وصياغة التوجهات.

الخطوط العريضة الموجهة للخطة التي يجري العمل على بنائها هي:

أولاً: بناء تنظيمي وفكري:

تطوير وإغناء البرنامج السياسي نحو برنامج مفصل لشكل ومضمون الدولة المنشودة، بالتوازي مع العمل على استكمال بناء الحملة، بكافة لجانها الفرعية، وأطرها المهنية والشعبية والطلابية والشبابية، تهيئةً لتحولها إلى حركة شعبية واسعة، وإلى لاعب سياسي فاعل في الساحة. وهذا يجري عبر اللقاءات الداخلية المنهجية والتواصل مع أصحاب الاختصاص المعرفي من أبناء وبنات شعبنا.

ثانيا: من أجل نقل فكرة الدولة الواحدة إلى مركز الخطاب الفلسطيني العام، وبناء تيار وعي جديد، وخاصةً في الوسط الشعبي، تسعى الحملة إلى تطوير حملات إعلامية متواصلة، معتمدة مختلف وسائل التواصل الإعلامي والتواصل الاجتماعي.

ثالثاً؛ تسعى الحملة إلى تطوير خطط وبرامج عملية لكل تجمع فلسطيني، ترتبط بهموم الناس المباشرة، وحقوقهم المدنية والوطنية، وبمهمة تنظيمهم وبناء اللجان والمؤسسات المهنية والتمثيلية، على أساس كونهم فلسطينيين، في داخل منطقة 48، في الضفة والقطاع والقدس، في مخيمات اللجوء، وفي المهجر خاصة في أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأوروبا، وذلك من خلال ربط الأجندات الخاصة بكل تجمع مع فكرة فلسطين الواحدة؛ جغرافيًّا وديمغرافيًّا، حضاريًّا، وسياسيًّا، ووطنيًّا.

ويتأتى هذا الربط الوطني، من خلال العمل الثقافي والإعلامي والأكاديمي والطلابي والنسائي والعمّالي المشترك، ومن خلال إحياء مناسبات وطنية وقومية مشتركة، مثل ذكرى النكبة، وغيرها، وخوض نضالات مشتركة، مثل تنظيم مسيرات عودة من داخل فلسطين، أو من خارج فلسطين نحو الحدود، أي حول أي قضية وطنية.

رابعا: المبادرة في التواصل والتشبيك مع القوى العربية الوطنية، التقدمية والديمقراطية واليسارية (الإنسانية)، في عموم الوطن العربي، بكافة تنوعه القومي والإثني والديني، انطلاقا من العلاقة الحضارية التاريخية والجغرافية، والرؤيا التحررية الوطنية والديمقراطية والتنموية، المشتركة.

خامساً: التواصل مع العالم الإسلامي، بما يمتلك من قوة هائلة كامنة مساندة للحق الفلسطيني، وخاصةً تلك القوى المتنورة الشعبية والمدنية، وبعض أنظمته الرسمية التي لم تطبع مع الكيان الإسرائيلي، ماليزيا، وباكستان، والتي لم تتورط بقمع ثورات عربية داخلية، وغيرها. وهذه القوة مهملة إلى حد كبير ونادرًا ما يجري الالتفات إليها من قبل القوى القومية الديمقراطية الفلسطينية والعربية.

سادساً: الانخراط في الجهود المتجددة الجارية التي تقوم بها أطر شعبية فلسطينية، وأبرزها حركة المقاطعة الوطنية، BDS، للتواصل مع حركات التضامن العالمية مع قضية فلسطين، وأحرار العالم في المجتمع المدني، لا سيما اليهود التقدميون منهم، والكنائس المسيحية العالمية التقدمية.

ترى حملة الدولة الديمقراطية الواحدة، كإطار تحرري، نضالَ الشعب الفلسطيني، ضد نظام الاستعمار في فلسطين، كجزء من نضال شعوب العالم من أجل تحررها من الكولونيالية، ومن طغيان النظام الرأسمالي المتوحش، ومن أجل نظام عالمي أقل قسوة، وأكثر عدلا وإنصافا لعموم الشعب.

تستند هذه الرؤيا إلى كون النظام الرأسمالي الإمبريالي، المستمر، هو الذي خلق مأساة شعب فلسطين، وعشرات الشعوب في مختلف أنحاء العالم، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي لاتزال العديد منها تواجه ذلك الإرث الكولونيالي المدمر لحياة الناس ومستقبلهم.

في العقدين الماضيين، شهدنا إحياءً لافتا لحركة الشعوب، وللثورات، ولحركات الاحتجاج الواسعة، في الغرب والشرق، والتي أدخلت مفاهيم تحررية جديدة، وتقاطعات نضال متنوع، إثني وإجتماعي وقومي وجندري، ضد مجمل النظام الرأسمالي المتطرف.

وتطالب هذه الشعوب وحركاتها بالمساواة والعدالة، وإنهاء الفجوات الاجتماعية، والظلم الاقتصادي، الذي تكتوي بناره. ثَمَّ وعيٌ يتشكل مجددا، بأن قضية فلسطين رمزٌ للنضال من أجل العدالة، وبأن إسرائيل جزءٌ من هذا النظام العالمي المستبد، ليس فقط كونها تغتصب فلسطين، بل كونها –أيضا- جزءًا من النظام العالمي الراهن الذي يستغلها وينهبها، وذلك من خلال الاطلاع على دور إسرائيل التاريخي والمستمر في بيع الأسلحة ووسائل القمع والمراقبة، لأنظمة استبدادية، في أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا، والعالم العربي، لاستعمالها في قمع شعوبها، وللبقاء على عروشها.

دعونا أولاً نلقي نظرة خاطفة على واقع وتجربة هذا الجزء من شعب فلسطين، لنفهم لماذا يسود هذا الاعتقاد، وما مدى صحته؟

يشكل الفلسطينيون في المنطقة المحتلة عام 1948، بمجرد نجاتهم من التطهير العرقي وبقائهم في قراهم ومدنهم، والأهم تحدّيهم لنظام القهر والتهويد، أهمية إستراتيجية للقضية الفلسطينية وللنضال الوطني العام.

كما أنهم شاهدٌ حيّ على النكبة، وعلى الجريمة الصهيونية المتواصلة، وعلى التمييز العنصري المنهجي ضدهم رغم أنهم يحملون المواطنة الإسرائيلية، (المواطنة الكولونيالية)، مما يساهم في نسف الصورة الزائفة التي تقدمها إسرائيل عن نفسها إلى المجتمعات الغربية، وكأنها دولة ديمقراطية طبيعية.

لقد تزايد عدد هؤلاء الفلسطينيين الذين بقوا في مدنهم وقراهم ونجوا من التطهير العرقي من نحو 160 ألفا سنة 1948م، إلى ما يزيد على مليون ونصف اليوم.

لكن عددهم الكبير نسبيا ليس وحده ما يمنحهم أهمية إستراتيجية خاصة، بل أيضا ما حققوه من إنجازات سياسية وتعليمية وثقافية، ومعارك شعبية خاضوها، وبخاصة منذ انتفاضة يوم الأرض، في 30 آذار 1976م.

وبُعَيد اتفاق أوسلو، ورداً عليه، طوّر هؤلاء الفلسطينيون، من خلال إعادة بناء الحركة الوطنية، التي ارتبطت معنوياً وفكرياً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، خطابا وطنيا وديمقراطيا جديدا، يرفض هذا الاتفاق، وما انطوى عليه من تنازل عن مناهضة الصهيونية، وأصرّ على مواصلة تحدي هذه الأيديولوجيا العرقية الإقصائية والاستعمارية، من خلال طرح شعارات المساواة الكاملة والمواطنة المتساوية، التي يشترط تحقيقها إلغاء الطابع اليهودي والصهيوني للدولة، والهياكل العنصرية المرتبطة بها، وصولاً إلى “دولة جميع مواطنيها”، وليس دولة اليهود.

وجاءت هبتهم العارمة التي أطلقوها بعد يومين من تفجر الانتفاضة الفلسطينية الثانية، في الأول من أكتوبر عام 2000، والتي سقط فيها الشهداء والجرحى، رغم سلميتها، لتضعهم مجددا على خريطة الصراع، كجزء من القضية الفلسطينية، بعد أن أخرجهم اتفاق أوسلو الكارثي منها، واعتبرهم شأناً إسرائيليا داخليا.

الأهم ما راكموه من وعي وتمرّس في المواجهة السياسية والشعبية، والقانونية ضد الايديولوجيا الصهيونية وأساطيرها، من خلال تأسيس أحزاب وحركات سياسية، متعددة الايديولوجيات والبرامج.

وبناء على ما تقدم، يعتقد العديد من الأكاديميين والمثقفين الفلسطينيين بأن هذا الجزء من شعبنا مرشحٌ لقيادة المشروع الوطني الفلسطيني المستقبلي.

لكننا، في حملة الدولة الديمقراطية الواحدة، لا نعتقد أن بقدرة فلسطينيي 48 وحدهم النهوض، أو قيادة عملية تجديد المشروع الوطني الفلسطيني، فظروفهم الموضوعية والذاتية حتى الآن لا تؤهلهم لذلك.

لكنهم يستطيعون، وبخاصة نخبهم المتقدمة في الوعي السياسي الوطني والديمقراطي، لعب دور مركزي، إلى جانب إخوانهم في الضفة والقطاع والشتات، في بلورة مشروع تحرري وحدوي وديمقراطي، مثل حل الدولة الديمقراطية الواحدة.

من أهم الشروط التي يجب أن تتوافر فيهم من أجل تقديم دور مركزي وفعلي في صياغة المشروع الوطني الفلسطيني التحرري، هو انخراطهم في عملية إعادة تنظيم مؤسساتهم التمثيلية الوطنية الجامعة، وإعادة تحديد علاقتهم مع هذا المشروع ومع قضية فلسطين.

خاصة وأن إسرائيل كرست نفسها دستورياً، من خلال “قانون القومية” الذي سنته عام 2018م، دولة استعمارية، ونظام أبارتهايد، في كل فلسطين التاريخية، وسدت الأفق كليا أمام خطاب المساواة والمواطنة الكاملة، كبديل عن يهودية الدولة.

هكذا يتجسد دورهم ومساهمتهم في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني التحرري، والدولة الديمقراطية الواحدة.

تواصل معنا